من أي الزوايا نقرأ النص الإبداعي المعاصر، وكيف تبدو علاقة هذا النص (شعر وقصة ورواية) بالفنون الإبداعية الأخرى، وخصوصا البصرية منها (سينما ومسرح ودراما وتشكيل)؟ تبدو الغلبة في نهاية المطاف للفنون البصرية، إذا استثنينا التشكيل، باعتباره نصاً بصرياً محصوراً في فئة معينة، ويرمز إلى درجة تلقٍ نخبوية.

Ad

والغلبة المشار إليها نابعة من الحشد الجماهيري الذي تحظى به الفنون البصرية، مدعومة بآلة الدعاية، ومقولبة ضمن الاستهلاك المادي الذي لا يفرق كثيراً بين القيمة الأدبية وشباك التذاكر، فلا يمكن لنا أن نسفّه عملاً يجني ملايين الدولارات في الأسبوع الواحد، أو خلال أشهر قليلة، فقط لسبب أن علاقاته الداخلية أو بنيته النصية لا تتواءم مع ما رسخ في أذهاننا بشأن مواصفات الأدب الرفيع أو المسرح الرفيع ونحوه، فقراءة هذين الصنفين تنبع من وجهين لكل منهما دلالته ومواصفاته، الأول النص الإبداعي الذي يرتكز عليه هذا العمل، والثاني العوامل المؤثرة مثل الديكور، الإضاءة، الأزياء، في حالة المسرح، وأما سينمائياً فالعملية أكثر تعقيداً لأننا أمام صناعة عالمية تُحتشد لها كل الإمكانات المادية، والتقنية، مع استخدام براعات إخراجية ليست إلى نهاية.

وأمام هذه الفورة الإعلامية الإبداعية نتساءل عن المنهج الأمثل لتلقي النص الإبداعي، وقراءاته، فقد كُتب الكثير عن موت البنيوية التي حصرت نفسها في العلائق الداخلية للنص الإبداعي، وتعاملت معه وكأنه كائن جامد لا حياة فيه ولا روح، بل إن البنيويين يضعون مبضع الجراح داخل النص وينطلقون تقطيعاً وتشريحاً، وقصاً، ولزقاً إلى أن يخرجوا لنا بمجموعة جداول وإحصاءات، وكلمات ورموز، للدلالة على كائن ميت لا حياة فيه. وفي المقابل فإننا نجد علم السيميولوجيا، وهو العلم الذي تولدت عنه البنيوية في بعض أوجهها أكثر رحابة واتساعاً، من المدارس النقدية التالية له، فمازالت السيميولوجويا تمنحنا شطحاتها التفسيرية اللذيذة، والمدهشة، إذ إننا نسابق العلامات اللغوية ودلاتها غير المنتهية، وليست هذه العلامات محصورة في اللغة وحدها، وهي الحالة التي نحتكم إليها في النص الإبداعي المكتوب، بل هي تمتد إلى الأزياء، واللباس، والأطعمة، وملامح الوجوه، والماركات العالمية التسويقية، والمباني الحديثة، والإشارات التي تصدر عن الجسد، وما إلى ذلك. إننا أمام بحر لا نهاية له من الدلالات التعبيرية، التي يمكننا توظيفها في قراءة النص الإبداعي، أو تصنيف فئة معينة من البشر، أو الإشارة إلى مدى تمدن شعب ما أو تحضره.

قرأت مرة في معرض الحديث عن الإشارات الحرة ودلالتها، أن نظرة سريعة إلى القطار السريع في روما، مثلاً، يمكن أن تدلنا إلى المستوى الاقتصادي لركاب هذا القطار أو ذاك، إذ لاحظ الكاتب أن القطار المتجه إلى شمال إيطاليا الغني يمتاز بمقاعد وثيرة، ذات منظر أنيق، في حين أن القطار المتجه إلى الجنوب الفقير يمتاز بمقاعد داخلية مهترئة ممزقة، فالمقاعد هنا ليست سوى علامات أو إشارات دالة.

يمكننا توظيف هذه الاتجاهات النقدية ذات الإمكانات الرحبة في قراءة وتفسير كل نواحي الحياة، وهو الأمر الذي نفتقده في الكتابة العربية، إذ نادراً ما نجد قراءات إبداعية تتناول الظواهر المستجدة، أو تتبع دلالاتها داخل النص الإبداعي للوقوف على سمات المرحلة برمتها، فالقراءة النقدية الفردية لعمل شعري وقصصي لا تتيح لنا تتبع الدلالة المجتمعية المعاصرة لأي أمة كانت، فالأمر يتطلب قراءة مجموعة من الإصدارات الإبداعية والوقوف على سمات المرحلة، يبدو ذلك جلياً مع الرواية التي تلامس الواقع، بصورة أكثر مباشرة من الشعر الذي يتوارى خلف المجاز، والإشارة اللغوية المكثفة.