لن تقول طهران نعم، إلا بقدر، وذلك حفاظا على مخزونها الاستراتيجي من اليورانيوم المخصب، وبالتالي لا سبيل للغرب إلا التعايش مع إيران نووية، وكل الاتهامات الموجهة إليها «ليست سوى ثرثرة دول تجثم على ترسانات نووية تعرف تماما أن الخطر الواقعي على أمن واستقرار المنطقة هو إسرائيل وليس إيران»، كما جاء على لسان أردوغان الذي وصل إلى طهران على رأس وفد اقتصادي تجاري كبير بهدف تعزيز العلاقات الثنائية بين قطبي الشرق الكبيرين إيران وتركيا.
وبالتالي فإن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء مطلقا، ولن تتكرر خديعة إيقاف التخصيب لا طوعا ولا كرها، بعد أن تحول الزمن لمصلحة قوى المقاومة والممانعة رغم كل التهويل والتهديد والوعيد الذي ينطلق من بعض ردهات قيصر أوروبا الجديد!فطهران اليوم لم تعد وحدها التي تطالب بوضع حد للتعالي والعنجهية الغربية في التعامل مع دول الشرق، الساعية نحو اكتساب العلوم والمعارف والجانحة نحو التقدم العلمي المجبول بمداد علمائها ودماء شهدائها، بعد أن أخذت جارتها المسلمة تركيا خيارها في الاستدارة شرقا!إن من يطالب طهران اليوم بالرد الإيجابي المطلق على مقترحات فيينا الأميركية والروسية المسوقة برادعياً لا يدرك أهمية وعمق المعركة المفتوحة منذ ست سنوات ونيف بين إيران والغرب حول الاستقلال الناجز، ذلك أن المعركة الحقيقية في ما وراء واجهة النووي هي معركة الاستقلال الثاني لإيران التي هي أهم من معركة تأميم النفط التي خاضها محمد مصدق في بداية الخمسينيات ضد الإنكليز، وكذلك أهم من معركة تأميم القناة التي قادها عبدالناصر ضدهم أيضا في شطر الأمة الإسلامية الغربي!ولمن لم يدرك بعد عمق ما جرى خلال الشهور الأربعة الماضية بين الغرب المتجبر وطهران المقاومة والصاعدة، عليه أن يراجع تاريخ هذا الغرب المتصهين الذي لم يهتم حتى للحظة واحدة لحقوق الإنسان الفلسطيني المهدورة على مدى قرن أو يزيد، رغم كل ما جرى من حروب إبادة على شعب بأكمله على أيدي الرعاع وشذاذ الآفاق من تجار الحروب المستقدمين من أنحاء العالم، حتى يعرف الأسباب التي دفعت بهذا الغرب أن يصبح فجأة حريصا بهذا القدر على حقوق الإنسان الإيراني وصوت الناخب الإيراني «المضيع» لولا أنه أراد لطهران أن تأتيه خاضعة راضخة إلى محادثات جنيف، ومن ثم محادثات فيينا؟!لكن القيادة الإيرانية العليا التي خبرت هذا الغرب المتعجرف طوال العقود الثلاثة الماضية، باتت على قناعة أكيدة بألا أفق لهذا المشرق إلا بتعاضد شعوبه وتضامنها، وإسناد بعضها بعضا في القضايا الكبرى، وإفساح المجال لكل الاختلافات الصغيرة أن تحل عن طريق تكثيف التشاور والحوار والمصارحة والمكاشفة، ومنع أي اختراق للعدو لاسيما من خلال اللعب على حبال الفتن المذهبية والطائفية والعرقية.وزيارة أردوغان اليوم إلى إيران إنما تأتي في هذا الإطار، وهي تعتبر منعطفا مهما في مجال التعاون بين البلدين الجارين المسلمين في مجالات الاقتصاد والتجارة والطاقة والأمن الاستراتيجي والرؤية البعيدة المدى لمشرق مقاوم وممانع، يضم أمم الشرق الحية بنواتها الممانعة التي تضم بالإضافة إلى أنقرة وطهران كلا من دمشق وبيروت على أمل أن تنضم إليها بغداد والقدس المحررة، وصولا إلى القاهرة والخرطوم وتونس والجزائر والرباط حتى مضيق جبل طارق.بهذه الروحية وبهذا النفس يتباحث اليوم أردوغان مع القيادات الإيرانية لرفع مستوى التبادل التجاري من 7 مليارات دولار إلى عشرين ملياراً، وعينه مصوبة نحو تلك اللحظة التاريخية التي تجمع الدول الإسلامية الثماني الكبرى التي أطلق مبادرتها السيد أربكان يوما، والتي باتت اليوم هدفا استراتيجيا يستحق التضحية من أجله، تماما كما هو الموقف الموحد والمتضامن المطلوب من الدول الإسلامية كافة تجاه معركة إيران النووية، ليس فقط دفاعا عن استقلال إيران كدولة إسلامية كبرى لها مكانتها وموقعها وثقلها، الذي ينبغي أن يحسب له حساب في المعادلة الدولية، بل من أجل نزع فتيل الحروب التي تؤججها دويلة الإرهاب المنظم المدججة بكل أنواع أسلحة الدمار الشامل، أي دولة الكيان الصهيوني المغتصب للحقوق والأرض الفلسطينية والعربية.لذلك كان أردوغان واضحا وهو يتوجه إلى طهران بالقول إن من يهدد الأمن في المنطقة هو إسرائيل المدججة بالأسلحة النووية وليس إيران، وكان واضحا وهو في طهران عندما أعلن دعمه لبرنامج إيران النووي باعتباره برنامجا مخصصا للأغراض السلمية، وهو ما لاقاه فيه أحمدي نجاد عندما قال إن بلاده والجارة الكبرى تركيا تستحقان أن تساهما بفعالية في إدارة شؤون العالم، وإنهما قادرتان أيضا على تغيير المناخ الدولي الحالي المتوتر والمشبع بدخان الحروب بما يخدم السلم والأمن الدوليين الحقيقيين!إنها مناخات جديدة تفرضها إرادة تركيا الجديدة المستديرة شرقا بعثمانية إسلامية متجددة مواكبة للعصر، وإرادة إيرانية إسلامية مستقلة ترفض الانصياع لإملاءات اعتاد الغرب المتجبر أن يفرضها على دول وشعوب المنطقة إلى ما قبل التحولات الحالية!وبالتالي فإن من حق إسرائيل وأربابها الغربيين أن يبدو أكثر كآبة من أي وقت مضى، وهم يرون «تركيا الفتاة» تتفلت من أيديهم وتقترب أكثر فأكثر من إيران التي سبق لهم أن خسروها قبل ثلاثة عقود عبر زلزال الثورة الإسلامية الإيرانية، الذي قض مضاجع قادة العدو الإسرائيلي ولايزال.ثمة من يرى في هذا المشهد السياسي الجديد الذي يصنعه أردوغان وأحمدي نجاد نوعا من إعادة إحياء للتاريخ القديم متعانقا مع جغرافيا المنطقة السياسية، وتحديدا عند محطة فيينا النووية وما تعنيه هذه المحطة في التاريخ والجغرافيا الإسلامية بالذات!فهل ثمة من يعتبر مما يحصل حوله من إخواننا عرب الاعتدال؟!* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
عناق الخمينية والعثمانية على أبواب فيينا!
29-10-2009