انفتح باب المصعد، في البناية التي كان يسكنها وإذا بجسد ممدد على المصعد، حين تم التعرف عليه، كان الشاعر قد مات. لقد توقف قلب توفيق صايغ في بلد عاش ودَرّس فيه: الولايات المتحدة الأميركية، بالقرب من جامعة بيركلي، في كاليفورنيا. مات توفيق صايغ وترك «معلقته» ترن كأجراس أعياد الميلاد. كان ذلك تماماً في ليلة،

Ad

1971ـ 12ـ 3. وهاهي ذكرى وفاته تمرّ بصمت، ويكون توفيق صايغ قد مرّ على رحيله أكثر من ثلاثين عاماً. ربما كان محمود شريح الأكثر وفاء تجاه هذا الشاعر فراح هنا وهناك، وسافر إلى أكثر من بلد ليجمع الأوراق والوثائق والرسائل والملاحظات لكتابة سيرته، والتي صدرت عن رياض الريس للنشر منذ عام 1989 بعنوان (سيرة شاعر ومنفى)، على أن توفيق صايغ نفسه كان قد قدم أحد الاكتشافات المضيئة والتي كانت مجهولة في حياة جبران خليل جبران، في كتابه المهم (أضواء جديدة على جبران)، ولعل هذا الكتاب هو أفضل الكتب وأثمنها التي صدرت عن حياة جبران، وقدم جبران بطريقة لم تعهد من قبل، بحيث بدا صاحب كتاب (النبي) أكثر عمقاً وواقعية، على حد تعبير أنسي الحاج. كان في شعر توفيق صايغ مسحة من الرسولية العابقة بأطياف العشق المعذب، وكان بين شعره وحياته ذلك التنافذ السري الحميم. شعر فيه حيرة وتمزّق وترحال، وهو في ذلك كله، كان يفتح أبواباً ونوافذ لهواء قصيدة النثر مبكراً دون تنظير ولا ادعاءات كمن يقرأ قصيدة وهو يمشي، وقد تبدو قصيدة صايغ غريبة على العربية، وهي بالإضافة إلى ذلك تحتوي على أمثولات ورموز، دينية: الحوت، الكركدن، الناصري، العذراء إلخ... (ثلاثون قصيدة)

و(القصيدة ك)، و(معلقة توفيق صايغ) ثم أخيراً ( صلاة جماعة ثم فرد) التي (نشرت بعد وفاته). هي أعمال توفيق صايغ الشعرية. تبدو قليلة، أجل، كان الصايغ قد تعب لكنه في هذه الأعمال قدم لنا جوهراً مقطراً من ماء روحه، عن الألم والعذابات والخسران، ابتداء من خسارة فلسطين، وانتهاء بتشرده في كيمبردج، وبيركلي، ولندن، وبيروت، حتى وفاته التراجيدية. في (القصيدة ك) يتجلى ألم توفيق صايغ، كذروة العشق، فالمحبوبة كاي التي رمز إليها الشاعر بحرف ك، كانت قد دخلت عالمه مثل العاصفة، وكان الشاعر قد انفتح جرحه إلى الأبد، وبدا بسبب الفاجعة كأنه يسقط من جبل شاهق. قصة حب كبيرة تنتهي بالضياع والتيه، والخسران، كُتبتْ بلغة جريئة، وبوح عال. ومن عرف توفيق صايغ وقتئذٍ، يَعرف قصته المعقدة والشخصية والطويلة كما يشير رياض الريس في مقدمة الرسائل التي تبادلها مع الشاعر ونشرها في أحد أعداد الناقد. عندما صدرت مجموعته «ثلاثون قصيدة»، احتفى بها كبار الشعراء من الجيل القديم، ميخائيل نعيمة وسعيد عقل، والجيل الأكثر حداثة كيوسف الخال، انسي الحاج، خليل حاوي، جبرا إبراهيم جبرا، وسلمى خضراء الجيوسي. لقد عرف توفيق صايغ كيف يفتح مساحة الحرية الشعرية إلى مدى أوسع، كان الشعر عنده ينبثق مثل ينبوع صاف، ليجري في المناطق الأكثر عتمة:

تصاعدت من بحيرتك غيمة

هطلت من الأودية

وفوقك اتشحت بالبياض

واني بين «بلى» كنتها منذ

بطش الضوء بالعتمة الحنون

و»بلى» ستكونينها حين تعيدنا

معاً عتمة أحن

طوال عهد الضياء الضرير

كنت «لا»

في أوائل الستينيات أصدر توفيق صايغ في بيروت مجلة حوار، هذه المجلة التي استقطبت حينها أغلب الكتاب والشعراء العرب الطليعيين، إلا أن المجلة لم تستمر طويلاً، فبعد الجدل العاصف، والاتهامات، التي وجهت إلى المجلة وصاحبها، على ضوء ارتباطها بمنظمة حرية الثقافة العالمية الممولة من وكالة المخابرات المركزية الأميركية، (وكانت المنظمة تمول مجموعة من المجلات الثقافية بما فيها مجلة انكاونتر الشهيرة) أوقف توفيق المجلة بحزم، بعد معرفته بحقيقة الأمر، غير أن الهجوم على توفيق صايغ لم يتوقف فغادر بيروت متألماً، عائداً إلى عوالمه التي عاش فيها. عام 1963 قدم توفيق صايغ باقة من المختارات الشعرية الأميركية في كتابه (50 قصيدة من الشعر الأميركي) وكان هذا الكتاب حينها مدخلاً مهماً في معرفة اتجاهات الشعر الأميركي المعاصر، اختار توفيق الشعراء بعناية فائقة، وقدم ترجمة خلاقة لشعراء من روبرت فروس إلى هولاندر إلى وليمز كارلوس وليمز إلى شعراء الجيل الأميركي الأخير، بالإضافة إلى هذا الكتاب، ترجم توفيق صايغ رباعيات اليوت مع إضاءات كافية لقراءة النص. لكن ما الذي يتبقى من توفيق صايغ؟ لقد رحل الشاعر تاركاً لنا شعره الجميل وجرأة المغامرة والاكتشاف، ترك لنا درساً في التواضع. صحيح ان توفيق صايغ على جرأته المبكرة في الاشتغال الشعري المختلف، لم يشكل تياراً يمكن معاينته داخل الحركة الشعرية العربية، إلا أن اجتراحاته الشعرية دفعت، ولو على نحو غير واع الحداثة الشعرية العربية، إلى آفاق أكثر انفتاحاً وتجديداً.