الكتابة في السياسة
سئلت هذا السؤال مرات عدة من متابعي مقالاتي ومن بعض الأصدقاء: "لمَ لا تكتب عن السياسة كثيرا؟ ولماذا تبتعد بمقالاتك عن شؤون البرلمان والحكومة متجها إلى الجوانب الاجتماعية والسياسية التي يعايشها الإنسان في حياته اليومية؟"وفي كل مرة كنت أجيبهم بنفس الجواب: "لأنني صادق مع نفسي... وأريد أن أكون صادقا مع الآخرين"!فأنا في واقع الأمر لست كائناً سياسياً يفطر ويتغدى ويتعشى سياسة، ولا أدمن كغيري قراءة ومشاهدة أخبار الحكومة والمجلس عبر الصحف والإنترنت والتلفزيون صباح مساء، في "الطالعة والنازلة"، وبمواضيع لا تستحق المتابعة على شاكلة: "ماذا قال النائب الفلاني وبماذا رد عليه النائب العلاني" والسياسة لا تشكل سوى جزء من اهتماماتي، وعندي أن أقضي الوقت في قراءة رواية جميلة أو كتاب مفيد خير ألف مرة من متابعة المساجلات والمعارك الكلامية للسادة النواب، مع كامل الاحترام لهم ولمساجلاتهم التي لا تنتهي!
ولأنني صادق مع نفسي، وأريد أن أكون صادقا مع الآخرين، ابتعدت عن الكتابة في قضايا سياسية لا أملك فيها المعلومات الدقيقة والكافية التي تعينني على اتخاد موقف صحيح منها لأنني لست ممن يخوض مع الخائضين بغير علم، ولست محسوبا على كتلة سياسية أتخذ موقفي بناءً على موقفها، وهناك قضايا كثيرة لم أكتب شيئا عنها مثل الداو كيميكال والخصخصة بسبب ضبابيتها، ولإدراكي التام أن صوت "المتخصصين" لا "المتابعين" أمثالي من يجب أن تفرد له المساحة الأكبر ليقول رأيه، وليوضح للناس فائدة وأهمية هذه المشاريع، كي يخلق رأيا عاما إما بالقبول وإما الرفض، لا أن يترك الأمر لكتاب الزوايا لخلق هذا الرأي، ومعظمهم لا يملك رؤية واضحة عن الأمر كونهم ليسوا من أهل الاختصاص، إنما يتخذون مواقفهم بناءً على حسابات سياسية سابقة مع هذا الطرف أو ذاك أو ضدهما، ولذلك، أفضل الصمت في موقف كهذا... لأنه خير من كلام لا معنى له! ثم بعيدا عن هذا وذاك، كنت ولاأزال على قناعة تامة بأن جميع المشاكل السياسية هي بالأصل أعراض لأمراض اجتماعية وثقافية، وعلى من يريد حل هذه المشاكل أن يبحث عن جذورها في الفكر المجتمعي والثقافي الذي أنتجها، خذوا عندكم مثلا نواب مجلس الأمة الذين يشتكي معظمنا من سوء أدائهم في كل دورة نيابية وينعتهم بكل الصفات: "نواب تأزيم، نواب خدمات، نواب حكوميون" ثم في الانتخابات التالية يعيد انتخابهم أو انتخاب من هم على شاكلتهم، فيكون التغيير في الوجوه لا في الأداء أو الممارسات، ويأتي المجلس نسخة كربونية لما سبقه، لأن الفكر والثقافة والعادات المتخلفة التي أتت بهذا المجلس هي ذاتها التي أتت بسابقه، ولن تتغير نوعية النواب ما لم تتغير نوعية الناخبين، ومن يرد علاج الخلل في المجلس فعليه أن يبذل جهده مع الناخب الذي أوصله، وأن يرتقي بفكره، وبثقافته، وبنظرته للأمور، نعم، قد نقدم من خلال نقدنا لأداء النواب ومواقفهم بعض الحلول للتوترات السياسية، لكنها حلول مؤقتة وترقيعية، فسرعان ما يعود هؤلاء إلى سيرتهم الأولى لأنهم غير مؤهلين ليكونوا نوابا من الأصل واختيارهم كان خاطئا في الأساس، وما ينطبق على اختيار النواب ينطبق على اختيار الوزراء القائم على سياسة الإرضاء لهذه الفئة من المجتمع أو تلك. صدقوني، الخلل اجتماعي لا سياسي، أصلح المجتمع فكرا وثقافة تنصلح السياسة، فالنائب الفاسد نتاج ثقافة فاسدة، والوزير الفاسد يرشحه فكر مجتمعي وثقافي أكثر فسادا منه، ومن يطالبون اليوم بإعادة الانتخابات لا يدركون هذا الأمر أبدا، وهو أساس ولب المشكلة حقيقة!ولذلك، أسعى من خلال بعض مقالاتي الاجتماعية أو الإنسانية البعيدة عن السياسة أن أغير شيئا ولو يسيرا في هذا الفكر المتخلف القائم على القبلية والطائفية والمصلحية ونبذ الآخر، لأنشر محله ثقافة الحب والتسامح وقبول الآخر لإيماني التام بأن الإنسان كلما ارتقى بثقافته وفكره وإحساسه بالآخر ارتقى باختياراته الحياتية والسياسية، وهو ما حدث ويحدث في جميع المجتمات الإنسانية المتحضرة... لكننا لا نعي ذلك أبداً.