يحلو للرئيس المصري حسني مبارك القول عادة إنه لم يحصل على إجازة منذ بدأ حياته العملية في العام 1949، ولو ليوم واحد، وهو أمر يمكن تفهمه في ضوء ما بات معلوماً بالضرورة عن سمات الدأب في شخصية هذا الزعيم، الذي سيتم في نوفمبر بعد المقبل ثلاثين عاماً متصلة في حكم مصر.

Ad

لكن مبارك غاب قليلاً في إجازة عندما خضع لجراحة في الغضروف في صيف عام 2004، وقبلها بأقل من عام كان قد قطع خطاباً ألقاه أمام البرلمان بسبب «هبوط في الدورة الدموية»، قبل أن يعود لإكمال الخطاب بعد راحة امتدت نحو 40 دقيقة. روى لي سياسي خليجي مرموق أنه كان يسكن في ذات البناية التي كان الرئيس مبارك يقيم فيها في منطقة مصر الجديدة، شرق القاهرة، في خريف عام 1973، حيث عُرف لاحقاً أن الأخير (رئيس سلاح الجو آنذاك) كان يخطط لضربة جوية محكمة، «فتحت أبواب النصر للعسكرية المصرية» في حربها ضد إسرائيل.

ومما رواه هذا «الجار»، الذي كان يدرس آنذاك في إحدى الجامعات المصرية، عن تلك الفترة: «لا يمكن أن أنسى كيف كان يوجد صباح كل يوم في شرفة منزله، حيث يروح ويجيء في مشية عسكرية منضبطة، لا يلوي على شيء، ولا يتحدث إلى أحد، إلى أن تأتي السيارة العسكرية في تمام السابعة والنصف، لتصطحبه إلى مقصده، من دون انقطاع أو تغيير... أعتقد أن مبارك يؤمن دائماً بقدرته على الاستمرار».

منذ صعوده إلى السلطة في عام 1981، لم ينعم الرئيس مبارك يوماً بصلاحياته المطلقة على رأس الدولة المصرية من دون الكثير من الانتقاد، وربما التجريح، وفي المقابل فقد أوعز نظامه للكثيرين، وتبرع آخرون أكثر، بكيل المديح والثناء على شخصه، لكن أحداً لم يشر، فيما أتذكر، إلى أهم مناقبه... الصلابة والجلد، كما أن كثيرين لم يرصدوا أخطر عيوبه، إيمانه العميق بضرورة وجوده الدائم في رأس السلطة، لأنه «الأقدر»، كما يؤمن، على «إدراك المصلحة العامة وقيادة العمل الوطني».

لم يكن مبارك أفضل حاكم حصلت عليه مصر على مر تاريخها المفعم بالقهر والتسلط والفقر والأمجاد، لكنه أيضاً ليس أسوأ من حظوا بتلك المكانة ولا أقلهم بلاء، وقد اختار لها، بوسطيته التي لا يختلف عليها اثنان، موضعاً وسطاً وإنجازاً محدوداً وقواماً متوسط التماسك والمرونة؛ فلم يسمح لها بالانهيار والهزيمة الكاملة، كما لم يحرر طاقاتها ويضعها على طريق الانطلاق المفترض.

بعزيمة جندي، ودأب فلاح، وحرص عصامي، وعقلية موظف، وحس أمني، وتسامح عقلاني، وذكاء فطري شديد التموه والتواضع، نجح الرجل في إدارة الأزمات واللعب على التوازنات، بشكل أمّن له رئاسة نعمت طويلاً بالاستقرار، وربما عززت رغبته الدائمة في البقاء.

يوشك مبارك على بلوغ تمام عقده الثالث في السلطة، وبلده يعاني أخطر الأزمات، وينهكه الفساد، وتوجعه الفرص الضائعة، وينهشه الفقر، ويغرقه الانفلات؛ فيشكك البعض في كفاءة الرجل، ويصرخ الكثيرون هلعاً من إقدامه على توريث السلطة لنجله، لكن كثيراً من نقاده يجدون صعوبة في التشكيك في وطنيته، أو التعريض بحنكته، التي حالت دون وقوع هزات عنيفة تأخذ البلد إلى الفوضى الشاملة أو الهزيمة المعلنة.

من أهم فضائل مبارك صلابته، التي اكتسبها من ميادين الرياضة والعسكرية، والتي تجلت في رباطة جأشه في الملمات؛ سواء خلال عمله كطيار مقاتل، أو حينما أطلقت النيران عليه نائباً للرئيس في حادث المنصة ورئيساً في أديس أبابا، وعندما تكشفت وقائع عن محاولات جادة لاغتياله، وأخيراً حين فقد زهرته اليانعة وصلته الأكثر إنسانية بالحياة... حفيده محمد.

يبدو أن الرجل استطاع دوماً الخروج بجلد وإصرار من تلك الأهوال كلها، ويبدو أنه لم يجد نفسه يوماً في حاجة لمراجعة حساباته تحت وطأة الضغوط والمخاطر والأحزان، وأنه عازم ومطلق اليقين في ضرورة البقاء، كحاكم من سلالة الفراعين، قابضاً على السلطة، مستمتعاً بالولاء والمجد، محتمياً من تجرؤ النخب والعوام، رئيساً لمصر «حتى آخر نفس» في صدره.

يوم الخميس الماضي، ظهر مبارك على شاشات التليفزيون مع مجموعة من أقرب مساعديه، لتقييم الأداء الحكومي وضبط الإيقاع، بعدما غاب نحو 40 يوماً، حيث خضع لجراحة لاستئصال الحوصلة المرارية في ألمانيا، وبقي هناك لثلاثة أسابيع، قبل أن يعود إلى شرم الشيخ في سيناء، ليقضي فترة نقاهة استمرت 18 يوماً.

على مدى الأيام القليلة الفائتة، تكثفت التكهنات في مصر عن إقدام الرئيس على تعيين نائب له، للمرة الأولى منذ صعد إلى السلطة، ليقود مرحلة تغيير مقبلة، وقد تم تداول عدد من الأسماء المرشحة لتولي هذا المنصب.

وفي غضون ذلك، أخذ نجم المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي في اللمعان، وأخذت أقدامه في الرسوخ، حيث تزداد حظوظه في التأثير والتغيير يوماً بعد يوم، رغم أن الدستور، بوضعه الراهن، لا يسمح له بالترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة.

يبدو أن الرئيس مبارك، الذي عول كثيرا على الوقت والدأب والصلابة، بات مطالباً بقرار من نوع ما، على عكس ما كان يرجو، أو ما اعتاد عليه.

ولا شك أن أفضل ما يمكن أن يفعله الرئيس اليوم هو الاستجابة لمناشدات واقتراحات النخبة الوطنية لإعطاء مصر ما هي جديرة به من حق أصيل في انتخاب رئيسها عبر قوانين وإجراءات شفافة وديمقراطية، تسمح لكل راغب ومؤهل بخوض المنافسة. ولا شك أيضاً في أن أسوأ ما قد يصدر عنه هو إقدامه على توريث السلطة لنجله... الآن أو بعد عمر طويل.

فإذا كان مبارك هو ذلك الصلب الجلد العاشق لسلطته والقابض عليها، فالأرجح أنه، سيظل قابضاً على الحكم حتى اللحظة الأخيرة، من غير احتياج إلى نائب على الأرجح، وإذا كان هو ذلك الوسطي المعتدل المعول على الحكمة وتجنب الهزات؛ فالأجدر أنه سيوطد لنجله دون أن يورثه في حياته، كما أنه لن يقدم على تغيير ديمقراطي مفصلي قد يأخذ الأوضاع إلى «انفلات غير محسوب» من وجهة نظره.

وعلى عكس ما يحب المصريون، وبخلاف ما دأبوا عليه على مر عصورهم؛ فإن جزءاً من مصير تطورهم السياسي بات هذه المرة في أيديهم، ربما بأكثر مما كان في أي وقت من الأوقات التي مضت منذ نحو 60 سنة.

* كاتب مصري

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة