هي ثوان قليلة. يقول المرصد إنها بالتحديد اثنتا عشرة ثانية. هي ثوان لا يمكن لأحد أن يهتم بها أو يكترث لفعلها حين تكون الأمور طبيعية. ولكن تلك الثواني من الزمن يكون لها فعل استثنائي وخارق حين تكون هي زمن الهزة الأرضية التي تعرضت لها العاصمة الكندية أوتاوا يوم الأربعاء المنصرم. تتحول تلك الثواني إلى امتحان بشري هائل ترى فيه تغير الوجوه، ارتباكات الألفاظ، الاتزان والانهيار وتفاصيل بشرية لم تتوقعها. ترى البشر الذين يحيطون بك قبل الثواني التي اهتزت بها الأرض قليلاً وكأنهم ألغوا التشابه المفتعل وعادوا إلى كوامنهم التي حركتها ضحكة سخرية من أمنا الأرض.

Ad

كنا مجموعة من الزملاء في المبنى حين تحركت الأرض تحت أقدامنا. كانت ردة الفعل الأولى في أول ثانيتين واحدة "زلزال". أما بقية الثواني فقد ارتبك فيها كل شيء. صرخة خافتة، بكاء سيدة تحب الحياة لسبب ما، رجل يهرع إلى الباب ليكون قرب أبنائه، وكأنه يستطيع أن يختصر المسافة في ثوان. فجأة أصبح العراء هو الملاذ الآمن، وتدافع الجميع نحو الباب إلى الخارج، وكأننا نقدم اعترافاً متأخراً للعراء الجميل. وقفت أمام الباب الصغير خجلاً من أن أزاحم النساء المتدافعات نحوه، ولمحت الوجوه تعلوها هيبة الموت الصفراء. الدماء متوقفة في الشرايين والأعين في أعلى الرؤوس، وربما كانت هذه الوجوه ليست سوى انعكاس لملامحي، وربما رأى أحدهم أن وجومي وذهولي هو ردة فعل لأثر الصدمة، فليس أبشع من أن تنظر إلى الموت وهو يتحرك تحت قدميك.

انتهت الهزة الأولى، وكان العراء يتسع للجميع. كانت مجاميع بشرية هنا وهناك تقف أمام مبان خاوية دون أن تدرك هذا التناقض الغريب بين كونها المكان الآمن خارج عدد الثواني التي استغرقها الزلزال وتحولها فجأة الى أداة قتل في أقل من اثنتي عشرة ثانية. وحين يشعرون بالأمان يعودون إلى الانزواء تحت أسقف الأمكنة دون كلمة اعتذار واحدة. لم ألحظ إحدى الزميلات وهي تخرج أثناء الفوضى العارمة، ولكني انتبهت إليها وهي تعود إلى المبنى الذي لم أستطع مغادرته. كانت هي الوحيدة التي غادرت تحمل حقيبة يدها. سألتها زميلة كيف فكرت في حقيبتها فردت بطريقة حزينة: لا أريد أن أموت وحيدة! الذي أتذكره من مقرر الجيوتكنيك- بالإضافة الى أستاذه الفاضل حسن السند- هو أن الخطورة تكمن في ما بعد الهزة الأولى. وحين انتشر في المبنى خبر أن الهزة الثانية قادمة انتشر رعب مضاعف بين الزملاء، رعب ليس بالامكان قياسه، وقرروا أن يتركوا المبنى. لم أتخيل الطريقة التي يمكن أن تواجه بها زلزال قادم لا محالة، ولو أنهم تركوا الأمر للمفاجأة لهان الأمر. فمن حسن الحظ أن جاءت لحظة الحياة مرتقبة ومبشرة، وبقيت لحظة الموت غيبية وأقسى من الموت المؤكد هو الموت المحتمل.حين عدت إلى البيت كان المرصد حدد ما بعد الخامسة موعداً للهزة الثانية، ولم نكن نعرف هذه المرة أين سيضرب زلزال أوتاوا بقوة أكثر. وبدأت الخامسة ثقيلة ومرعبة والدقائق تسير ببطء قاتل. لم يكن من فعل سوى أن ننظر إلى وجوه بعضنا بعضا. وأن ننظر إلى عقارب الساعة وهي تتثاءب.  تذكرت حيوات طويلة مرت بي وأزمنة وأصدقاء وخليل حاوي "رباه كيف تمط أرجلها الدقائق تستحيل إلى عصور" وحسدته أنه اختار موته ولم يترك للموت فرصة اقتناصه. كانت الصور التي تمر بذاكرتي أشد وطأة من أن تهتز الأرض تحتي، ولم يبق من تلك الصور وأنا أقرر أن أنام سوى بيت لرجل بدوي لا أعرفه: الموت حق وكل نفس تذوقه ... مير البلا من شاف موته ولا مات