المقال الذي نشره السيد توماس فريدمان الأسبوع الماضي في الـ"نيويورك تايمز" جاء بمنزلة دعوة إلى عدم نسيان أحداث نيويورك، وأكثر من ذلك جاء مناقضاً للدعوات التي تجمع فرقاء المجتمع الأميركي، والرسائل التي تبعثها الدول الإسلامية لدعم حوار الحضارات والأديان، وما كان المقال ليثيرني وأنا أعرف، كما يعرف القارئ العربي والغربي، من هو السيد فريدمان، ولكن التناقضات التي حملها المقال تستحق أن نتوقف عندها، ومحاولة رفضها لأنها تناقض التاريخ أولاً والحاضر والمستقبل ثانياً.

Ad

الحكاية باختصار أن الجالية الأميركية المسلمة في نيويورك قررت بناء مسجد جديد بالقرب من موقع برجي التجارة العالمية وفي منطقة بارك 51 تحديدا، وهو ما يراه السيد فريدمان تحدياً لمشاعر أهالي ضحايا الاعتداءات وصوتاً يثير مواجع الأمهات والزوجات اللاتي فقدن أولادهن وأزواجهن، ويرى أن المسجد كان يجب أن يبنى في باكستان أو المملكة العربية السعودية، في إشارة واضحة إلى قادة الاعتداء على برجي التجارة العالمية. وكنا سنقف مع السيد فريدمان لو أن المصلين في المسجد سيأتون خمس مرات في اليوم من هاتين الدولتين ليصلوا في مانهاتن ويزعجوا مرتادي مسارح برودوي الشهيرة. ولكن الحقيقة التي يتجاهلها فريدمان عن عمد هي أن الجالية المسلمة في نيويورك جالية أميركية مليونية، وهي جالية، كما ذكر هو نفسه في المقال، استنكرت أحداث نيويورك، كما جاء على لسان الشيخ فيصل عبدالرؤوف صاحب المشروع وإمام المسجد، وهو موقف يتساوى فيه المسلم الأميركي مع الأميركي غير المسلم. ويعلم السيد فريدمان أن نيويورك ليست أرضاً مسيحية مقدسة، وليست "فاتيكان" أميركياً، بل هي أرض تتسع لجميع الأديان، وأماكن عبادة أصحاب هذه الديانات. ومشروع المسجد المزمع إقامته هو محاولة للتواصل مع الأديان الأخرى لا محاربتها.

ابتعد السيد فريدمان في مقالته ليوجه اتهاماً غريباً إلى العقلية الإسلامية، وعدم قدرتها على الإبداع الذي يحتاج برأيه إلى أن تختلط فيه الفنون والآداب، ضارباً مثلاً بعقلية ليوناردو دا فينشي التي جمعت مختلف الفنون لتنهل من بعضها وتخرج في النهاية عقلية ابتكارية. وكأن من مواصفات المسلم، كما يعرفه السيد فريدمان، أن يلتصق بكتابه السماوي فقط، ويتنكر لجميع الإبداعات الأخرى. وأنا أفهم أنه يقرأ بشكل ضيق العقلية المسلمة وينظر الى حضارة المكان الآني لا الى الحضارة كفعل تراكمي. الحضارة تتحكم فيها حركة الزمن الدائرية، وانتقالها من مكان الى آخر انتقال بناء يبني على ما سبق ولا ينفيه أو يلغيه. ولن نذكّر السيد فريدمان هنا بالعقلية الإسلامية قبل عصر النهضة الغربية، فهو درس يحتاج الى الكثير من الجهد لكي يستوعبه، ولكن نذكّره فقط باختلاط الأعراق والأديان التي تساهم في الحضارة اليوم في بناء أميركا.

إذا استطاع السيد فريدمان أن يقف أمام المسجد الجديد ويتعرف الى طبيعة المصلين والكفاءات التي يحملونها ربما أخذ فكرة أخرى عن حقهم في إيجاد مكان لعبادتهم في المدينة التي يدرّسون في جامعاتها ويعملون في مصانعها ومؤسساتها، وسيرى أنها كفاءات لا تقل أهمية عن كفاءات يهودية ومسيحية وبوذية ولا دينية. السيد فريدمان يدرك أن الجندي المسلم في أميركا له الحق في مسجد على حاملة الطائرات، كما له الحق في بناء مسجد في مانهاتن، ولكنه ينظر الى ما يريد ويغري الأميركي المحتقن تجاه كل ما هو إسلامي، وكأن الدعوة الأميركية إلى الانصهار تخرج من دائرتها مسلمي أميركا عرباً وأفارقة وآسيويين وأوروبيين فقط لأنهم مسلمون.