منذ مدة وأنا أفكر في الكتابة عن جميل حتمل، وفي الفترة الأخيرة أصبح هذا الهاجس حاضراً بقوة، كأنما ذاك اللقاء الأول والأخير معه، كان كافياً لأن استحضر بعد هذه السنوات هيئته المشرقة، على نحو واضح. حدث ذلك في المغرب –الرباط- عام 1992، كنت قادماً من نيويورك، وهو من باريس، جلسنا في مقهى يطل على الأطلسي، وكان جميل حتمل بابتسامته الأخاذة أشبه بالطفل، كلا على الأرجح ان جميل حتمل لم يكن إلا طفلاً، ولد عام 1956 واستمر هكذا، غاية في الرهافة والوداعة، على الأقل هكذا كان يبدو من هيئته الخارجية، وكنت حينئذٍ أعرف أنه يعاني مشاكلَ في القلب. وكنت قد قرأت له بعض أعماله القصصية، وكنت أعرف أيضاً أن والده الفنان التشكيلي الفريد حتمل. هذا إذن أحد أبناء جيلي، سرق عمره في أقبية السجون والمرض والمنافي، لم يكن جميل يريد أن يغير العالم. كان يحلم بأن يكون للإنسان العربي في وطنه حياة كريمة ولائقة به، ولأن هذا لم يتحقق، كتب شهادته ومضى باكراً بعد أن هدّه التعب، وأوعز له قلبه: أن قف هذا يكفي!

Ad

في مستشفى «كوشان» في باريس كتب تلك الأمثولات القصصية بحب بريء وجارف، كتب بحساسية من يحب امرأة أو وطناً أو صديقاً، لهذا لم أشعر معه عندما التقيته بغربة أو مسافة. كان لقاء أشبه بلقاء أصدقاء يتجدد بعد مضي زمن بعيد.

غير أن جميل حتمل أثقلته التجربة مبكراً، ولأنه لم يتنازل عن مواقفه وما يؤمن به كان صلباً، لكن تلك الصلابة كانت تخفي خلفها خيطاً رقيقاً من الحزن، من الوجع بسبب صفاقة العالم، بسبب الجدار الذي اصطدم به هو وجيله، بسبب الخيبات الكبيرة، إن كان على المستوى الشخصي أو العام بسبب أحلام أُجهضت في مهدها. كانت طبيعة المرحلة تقول هذا. طبيعة القسوة والاستبداد وانسداد الأفق على نحو مدمر. كل هذا يُعبّر عنه جميل حتمل، في مجموعاته القصصية الخمس ابتداء من «الطفلة ذات القبعة البيضاء، انفعالات، حين لا بلاد، قصص المرض قصص الجنون، سأقول لهم» كان جميل يحاول أن يفتح كوة صغيرة ينفذ منها الضوء. ضوء دافئ وسط برودة العماء والعتمة. حلم واحد صغير لائق بالإنسان، لكن «شرق المتوسط» الذي نعرفه، شرق الاستبداد هذا لا يترك حيزاً لهذه الأحلام. يُسجن جميل حتمل –كما يُسجن آخرون – يخرج من السجن مريضاً، معطوب القلب، فيستقبله صقيع المنافي زمناً، ثم يرحل، يرحل إلى الأبد عن هذا العالم غير المأسوف عليه وعلى وجهه ابتسامة حزينة. لقد وصل به الأمر إلى حد الرجاء، الرجاء من الخالق أن يعيده إلى أرضه حتى ولو كان جثة، ففي إحدى قصصه يكتب: «تعبت وأريد كل مساءٍ أن أهمس لابني بمساء الخير، تعبت من الصقيع من سياط الوحشة، من برودة الرغبات، تعبت فأعدني يا الله، ولو جثة أعدني».

هذا الإحساس الحاد بالاغتراب والخيبة ذو منشأ داخلي أكثر مما هو من طبيعة الجغرافيا، فحتى في قصصه المبكرة، التي تعود إلى أواخر السبعينيات والثمانينيات، يظهر إحساس الخيبة هذا وإن على نحو أقل.