وأنت في دبي لا تحاول إطلاقا مقارنتها ببلدك، لأنك حينها ستصاب بالبؤس واليأس، بالرغم من مشاعر الفخر والتقدير لهكذا إنجاز... اللهم زد وبارك. وبالرغم من الطاقة الإيجابية التي تشعر بها أينما حللت في دبي، فإن الأسى يعتريك حين تتذكر بلدك وأنت تجوب الطرقات وتشاهد الزخم المعماري والبناء الذي يجري على قدم وساق، فتتذكر ما يحدث في بلدك من أزمات وكوارث وجمود وركود جعل منه نهراً آسناً تتكاثر فيه الفطريات والعفن.

Ad

إن المقارنة بدبي كانت دائما مثار حديث الناس في الكويت لأن التاريخ متشابه، أما الحاضر والمستقبل فبعيدان بعد السماء السابعة، لأنهم يعملون بهدوء ليلا ونهارا، ونحن ننام بصخب ليلاً ونهاراً، فينشغلون هم بالمستقبل ومسابقة الزمن، وننشغل نحن بالماضي والأحلام والعشوائية والعبث، لتقيدنا أغلال الماضي وتعيق من تحركنا إلى الأمام، فنحن ندور في دائرة مغلقة في صراعنا الديني وعصبيتنا المذهبية وقيمنا المنغلقة وازدرائنا للآخر، وهم يتجاوزون الإرث الماضوي التليد الذي يرفض التغيير والتجديد ويجعل الإنسان تحت حكم الوصاية، حتى أصبحت مدينة دبي أكثر إنجازات العرب إثارة منذ 7 قرون، حسب ما ورد في كتاب «دبي مدينة الذهب وحلم الرأسمالية» الذي صدر في الشهر الفائت للصحافي جيم كرين الحاصل على جوائز عديدة.

فقد نجحت تلك الإمارة الصغيرة في أعوام قليلة في أن تنتقل من مدينة فقيرة كانت خارج التاريخ وتحاصرها الرمال وشح المياه العذبة ويعاني سكانها ظروفا معيشية صعبة، تماماً كالكويت آنذاك، إلى مدينة الرفاه والثراء مستفيدة من عائدات النفط في بناء البنية التحتية. إلا أن حصة دبي من نفط الإمارات لم تكن وفيرة، حيث استثمر الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي آنذاك العائدات النفطية المحدودة في تنويع وتوسعة مصادر الموارد الاقتصادية، «وهي التي ميزت تلك الإمارة الصغيرة عن جيرانها الذين يتمتعون بموارد نفطية هائلة»، من خلال الرهانات الضخمة التي طالما قوبلت بالتشكيك، حيث يؤكد كرين أنها «تطلبت شجاعة وثقة وعزيمة صلبة وقلباً من فولاذ، هي التي حققت لدبي ما هي عليه اليوم من نجاح».

والجدير بالذكر هنا أن الإمارة اقترضت في الماضي من الكويت لتنفذ مشروعا شكّل نقلة نوعية، وهو مشروع حفر الخور استطاعت السفن الكبيرة من خلاله أن توصل بضائعها، حيث وصلت حمولة السفينة الواحدة إلى 3 أضعاف واردات دبي كلها من البضائع في عام 1951، فتجنبت دبي كما يصف كرين الإصابة «بحمى النفط» التي ابتليت بها مدن ودول نفطية أخرى، فأصبحت بذلك «أول اقتصاد في الشرق الأوسط يدخل مرحلة ما بعد نضوب النفط»، حيث تساهم عوائد النفط حاليا في ما معدله 3% فقط من الناتج المحلي، والبقية تتنوع لتشمل التجارة والبناء والخدمات، معتمدة على مبادئ ثلاثة شكلت الركيزة الأساسية لذلك النجاح وهي: «تأمين جو جيد للتجارة واستقبال الزوار بحفاوة بغض النظر عن دينهم، والقناعة التامة بألا ربح يأتي من دون مخاطرة». لتصبح اليوم عن جدارة «عاصمة الشرق الأوسط التجارية، وواحدة من كبرى الدول المتلقية للاستثمارات الخارجية المباشرة، وأكبر مراكز المنطقة المالية، وصاحبة أكبر ميناء ومطار»، وأطول خط قطارات آلي يعمل دون سائق في العالم (مترو دبي) الذي أنجز في وقت قياسي. ولا عجب أن يصنف استبيان «ميرسير 2009» دبي المدينة الأولى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث جودة الحياة والبنية التحتية.

لا نشعر بالحزن من منطلق «الحسد» والغيرة «السلبية»، بل لأننا معجبون وفخورون بإنجازات هذه الدولة الخليجية التي استطاعت أن تخلق قيماً إنسانية بليبراليتها وتعدديتها وانسجام مختلف الجنسيات والأعراق والأديان وجودة الحياة فيها، وهو أمر قلّما نجده في هذه البقعة السوداء من العالم... إلا أنها ليست بدولة مثالية كما يتوهم البعض، فلم ولن يوجد دولة طوبائية على سطح المعمورة إلا في الخيال. ودبي ليست بحلم وردي كما يتخيل البعض لأن هناك بعض السلبيات أهمها افتقادها للديمقراطية الحقيقية الكفيلة بحمايتها في المستقبل، فما الضامن أن يكون هناك حكام برؤية الحكام الحاليين دون تداول السلطة الذي يحكمه دستور واضح يحفظ دولة المؤسسات وحقوق الإنسان؟ الأمر الذي يثير تساؤلات عن جدلية الديمقراطية والليبرالية (التي سأخصص لها مقالي القادم) وتساؤلات أخرى عن جدوى الديمقراطية في عملية التنمية في الكويت كون ديمقراطية الإمارات وليدة وديمقراطية الكويت «عتيدة». وهي تساؤلات في غير محلها، إذ لاتزال ديمقراطية الكويت ناقصة وعرجاء رغم مرور 47 سنة على تجربتها، لأسباب عديدة أهمها عدم تداول السلطة فيها، وبالرغم من وجود أغلبية حكومية في البرلمان فإنها تفشل في تمرير مشاريع يحتاج الكثير منها إلى أغلبية عادية. فالمشكلة ليست في الديمقراطية، لأنها مجرد وسيلة وليست الهدف.

وأنا أقرأ التقرير الذي ترجم عن كتاب «دبي مدينة الذهب وحلم الرأسمالية» تذكرت أغنية مسلسل «الغرباء» القديم التي تقول كلماتها «كانت مدينتنا ذهب والناس للناس... زمان يا أحلى زمان... بكت المدينة والأرض الحزينة... ولا الدنيا هي الدنيا... وعقب الوفا والعز عشنا كما الأغراب».