الخسائر الناجمة عن المشي
قد يتساءل أحدنا إن كان ثمة خسائر ناجمة عن فعل المشي، الاكتشاف والمكاشفة؟ سؤال بالطبع يسبقنا إليه الشاعر المصري عباس منصور عبر ديوانه الذي يحمل عنوان "الخسائر الناجمة عن المشي"، ويترك إجابته في مهب الريح. الديوان صادر في عام 2002. ويحوي نصوصاً تسبق ذلك التاريخ إلى ما يقرب من ثلاثين عاماً.في أواخر التسعينيات الميلادية كنا- مجموعة من مرتادي مقهى الوحدة- نجد صعوبة شديدة في إقناع الشاعر/ الصديق، بالانضمام إلى "ركب العولمة"، كأن يقتني جهاز موبايل، مثلا، أو يتعامل عبر البريد الإلكتروني. باءت محاولاتنا بالفشل في حينها، ولست متيقناً ما إذا كان "سلّم الراية الآن". ومهما يكن من أمر فإن للشاعر فلسفته الخاصة ونظرته إلى فعل المشي، الذي لا يمكن أخذه بالمعنى الحرفي "للتجول". فالشارع في نظر منصور نموذج حي للصراع، وفعل التطوّر والتلاقح الحي، والاكتشاف، وإلغاء الآخر.
الشارع مكان نابض لأن فيه الفقراء والأغنياء، والشحاذين والباعة المتجوّلين، والأثرياء بسياراتهم الفارهة، وبائعات الهوى، والأباطرة "المعولمين"، والنساء المولعات بالثرثرة. يتخذ منصور من هذا التفاعل نموذجاً لفعل المقارنة، ويتكئ أكثر شيء على "العولمة". المصطلح الذي كان في عنفوانه إبان فترة التسعينيات الميلادية. فالشارع ينتج العولمة، والفقراء ينساقون وراءها، وربابنة الشركات الكبرى يجنون ثمارها. يقول:"ليس في الشارع ما يغري بالنزول/ فالمعادلة الآن: عش لنفسك/ كل الأماكن صيغت لأصحابها فقط/ ليس للآخرين محل بها/ إذن ما تنوي فعله غريب عن شجرة اللحظة/ حيث لا يقبل أحد بالنزول عن مقعده لك/ ولو على سبيل المجاملة!!". فما من أحد يتنازل عن عرشه راضياً، في عصر الصراع والعولمة. من الصعب اعتبار الخطاب الشعري في نصوص عباس منصوراً، مؤدلجاً، أو فاضحاً إلى حد التصريح والصدمة المباشرة، فعلى المستوى الأسلوبي يمتلك منصور خاصية الاسترسال، وتداعي الخواطر، بحيث تأتي الصور المتتالية، داعمة لفكرة أساسية أو وحدة موضوعية تبنى عليها النصوص. إذ الشارع ما هو إلا نبض منفتح على الأسرة، الأبناء، الأصدقاء، التاريخ، الأسطورة. يوظف الشاعر كل هذه العناصر لتصب في رؤية يصعب تأويلها بشكل جازم في قراءة واحدة. غير أن تتبع الخيط الرابط لنصوص الديوان يكاد ينتهي إلى فكرة مفادها: النقمة على العولمة، وعصر المادة أو الاستغلال المادي. لذا فإن نصوص المجموعة تمتاز بنفس شعري طويل وممتد، ويندر أن نجد بينها ما نطلق عليه نص "الومضة" أو الاختزال الشديد، فالاسترسال في مفهوم منصور نابع من تشعب الحالة التاريخية، ومن الثقافة الدينية والتاريخية التي يتمتع بها الشاعر ويوظفها بشكل بارع في نصوصه. يقول: "لمن تؤول الأرض/ في الحراج الأخير؟/ العتالون مروّجو النكات البذيئة (...) وأطفال السكن العشوائي/ وكثير من الدواب/ لمن يؤول مثل هذا الكفاح المسلّح/ في جو كهذا!!/ الخيبات تفوق أصابعي العشرين/ وأسمع في القلب دبيب الظمأ البشري البهيم/ حشرجات الموتى تئن عظامهم تحت أفق "الطوز"/ ميتون فعلاً/ ومتشبثون بالمشهد".يهدي منصور إحدى قصائد هذا الديوان إلى روح الشاعر الراحل علي الصافي، وجاءت تحت عنوان "يا علي... هذي خديجة حرّكت ساكنها". ولعل من المفارقة أن يلقى الصافي حتفه، في عرض الشارع وبفعل حادث مروري مؤسف. وبرغم ذلك نجد منصور يتخذ من نص الرثاء بوّابة لإدانة العولمة في فعلها الفاضح، وإدانة المؤسسة المدنية، وقضية البدون. يقول: "فعلتها يا علي/ يا أيها البدون ذو الدم الملكي/ أذكى من نبيهم سيف بن ذي "اليزن"/ فعلتها وأبكيتني/ أنا المحروم منذ مجاعتين من الدموع (...) كاد يقتلنا ضغط العولمة/ ومروجو الأكاذيب في الجرائد اليومية/ والمهووسون بالوهم في صفحات الشعر الذهبي/ ونحن مجردون تماماً/ ليس لنا سوى الاشمئزاز من هذا المصير".