حين يتحول جحا إلى بطل قومي!
البطل القومي عند أغلب شعوب الأرض إما أن يكون قائدا عسكريا أو زعيما سياسيا قاد الجموع، ووحد الصفوف في لحظة مفصلية من تاريخ الأمة، وأصبحت ترى أن بقاءها مرهون بتخليد صورته وترديد أقواله, ولن نضيف جديدا لو قلنا إن بعض الشعوب اختارت سفاحين وجعلت منهم أبطالا تاريخيين يمدونها بالرعب الذي تحتاجه بعد رحيلهم كي ترتعد فرائص الأجيال المتعاقبة خوفا من التغيير.
ثمة شعوب قليلة في هذا العالم تحررت من هذه الصورة النمطية، وابتكرت أبطالا ليس لهم أدنى علاقة بزحف الجيوش أو النضال السياسي كي تمنح أجيالها شكلا آخر للحياة، ومن هذه الشعوب الأتراك الذين جعلوا من «نصر الدين خوجه» الشهير عند العرب بـ»جحا» بطلهم القومي، فقد فضل الأتراك هذا الشيخ الظريف على جميع السلاطين والفاتحين العظماء الذين يحفل بهم التاريخ التركي، وأقاموا له متحفا لطيفا في إحدى مقاطعات الأناضول وقدموه باعتباره بطل الأمة التركية في مطبوعاتهم السياحية، ربما فعلوا ذلك كي يقاوموا الانطباع السائد بأن الأتراك أصحاب دم ثقيل ومزاج صعب، أو لأن مواجهات نصر الدين خوجه مع القائد المغولي تيمور لنك تحمل رسالة بأن العقل أهم من السيف.وفي هولندا لن تحتاج إلى أكثر من دقيقة واحدة بعد وصولك إلى هذا البلد، كي تعرف أن البطل القومي هنا هو فان غوخ، حيث ستجد صورته الشاحبة في كل الزوايا، وعلى مختلف الهدايا التذكارية، وليس غريبا أبدا لو وجدته مطبوعا على قاع الطبق أثناء تناولك الحساء.قد تبدو فكرة اختيار رسام قلق مصاب باضطرابات نفسية قادته إلى الانتحار غير مفهومة بالنسبة للكثيرين، خصوصا أن هولندا في غنى عن ذلك، فهي بلد استعماري يزخر تاريخه بالعديد من القادة والمستكشفين، ولكن فان غوخ «البطل القومي» يقول للهولنديين إن القلق هو طريق الاختلاف ومفتاح التميز، كما يقول لبقية الشعوب إن العالم يحتاج هولندا بقدر حاجته للفن. وفي تونس تتعرف على البطل القومي لهذا البلد العربي الجميل بمجرد قيامك بصرف العملة، حيث ستجد صورة الشاعر أبي القاسم الشابي مطبوعة على الدينار التونسي، فيزداد تعلقك بهذا البلد، وتصبح أيامك فيه قصائد لا تنسى.لم يختر التوانسة هنيبعل الفاتح العظيم الذي اكتسح أوروبا وعبر الجبال بجيوش قرطاجة، وفضلوا عليه هذا الشاعر الذي يعتبر من أعمدة المدرسة الرومانسية في الأدب العربي، إنهم بشكل أو بآخر يقولون إن أهم ثروة تمتلكها تونس هي الحب.وفي الولايات المتحدة تعتبر فكرة البطل القومي مسألة تجارية بحتة، حيث يتم الاستثمار في بطل ما لفترة معينة ثم استبداله بعد انتهاء صلاحيته التجارية ببطل قومي جديد، فالأميركيون شعب ملول ولديه نزعة دائمة للتغيير، وليس لديهم أي عقدة من تحول فكرة البطل القومي إلى فكرة تجارية يتم تجديدها بين وقت وآخر، فقبل سنوات كانت «جيسكا لينش» الجندية الأميركية التي أسرت في العراق هي البطل القومي الذي روج له البنتاغون، ولذلك طاردها الناشرون وصناع السينما من أجل تسويق قصتها البطولية، وبعد انتهاء صلاحية هذا البطل اتضح أن جيسكا استسلمت للعراقيين دون أدنى مقاومة، وأن قوة الكوماندوز الأميركية التي صورت عملية اقتحام المستشفى من أجل تخليصها كانت تعلم مسبقا أنه لا توجد قوات عراقية في هذا المكان، وحين ظهرت الصور الأولى لجيسكا بعد عودتها إلى بلادها رفع البنتاغون شعار: «أميركا لا تترك أبطالها خلف ظهرها»، وبعد أن انتهت القيمة الإعلامية والتجارية لجيسكا لم يجد الأميريكيون- ولا حتى جيسكا نفسها- غضاضة في كشف القصة الحقيقية مادام هذا الاعتراف يمكن أن يكون فرصة جديدة لجلب المال.* كاتب سعودي