صلاح جاهين عبقرية فنية لا أظن أنها ستتكرر، وإن تكررت فهي من النوادر الجميلة التي ستجود بها الحياة كل حين وحين. تجلت عبقريته في أكثر من مجال، فهو رسام الكاريكاتير المميز، وهو شاعر الكلمة الفذة، ومؤلف «الأوبريتات» الرائعة، وكاتب الأغنيات التي لا تنسى، ورباعياته التي باتت في وجدان الناس علامة وذاكرة، فهل ممكن أن يأتي الربيع ولا تحضر ذاكرة صلاح جاهين؟ وإن نسيناه فسيذكرنا به الشجر الأخضر اللي بقى ورور، والطير اللي بقى عبثي ومتهور، كله بفضل كلمات الرائع صلاح جاهين التي تفرحنا مع «طلة» كل ربيع وتكسونا بالرهافة والشجن عندما تتسرب كلماته من اللاوعي «بساعات... ساعات بأصحى من النوم وقلبي حزين...الخ».

Ad

عمنا صلاح كنت طوال عمري أحلم بلقائه، وعلى فكرة مازلت أحلم بهذا اللقاء، وكانت هناك فرصة لكني أضعتها لظروف خاصة بي، وللآن أشعر بخسارة ذلك اللقاء الذي لم يتم، وكلما شاهدت أي عمل له أتسمر في مكاني وأحملق في الشاشة وأذوب في المعاني، وخاصة أعماله مع سعاد حسني وعبدالحليم حافظ، ودرة أعماله الليلة الكبيرة بمسرح العرائس، هذا الأوبريت تجلت فيه عبقرية صلاح جاهين، فكل الشخصيات رسمت بدقة رهيبة وبأعمق ملامحها الخارجية والداخلية والوجدانية. والرسم هنا ليس أي رسم كان، وليس أي رسام قادر على رسمها، فهو رسم الشخصيات المصرية المدبوغة بمصريتها، بحضارة آلاف السنين التي مرت عليها وراكمت تاريخ شخصياتها طبقات فوق طبقات حتى باتت كل شخصية نموذجا بحد ذاتها وبانطباع صورتها وتثبيت أصالتها، فكل شخصية في المجتمع ليست وليدة ذاتها، بل هي بصمة وراثية لأصالة تاريخ وحضارة سنوات من أداء وسلوك هذه الشخصية عبر قرون من الزمن، وهذا مما يؤصل نمطها ومنطقها وقالبها الذي يدخله الآلاف من البشر بعضهم خلف بعض.

لذا نجد العبقري صلاح جاهين لم يصورها ويكتبها بشخصية فرد يعيش ويحيا الآن، لكنه جاء بأصالة وفرادة قالبها الأصلي الذي التقطته روحه من تحت ركام الآلف من السنوات ومئات من القرون هذه هي عبقرية جاهين الفذة والنادرة والقادرة على النفاذ والتقاط الجوهر وروح الشخصية والمكان والأحداث والسير، فمثلا لا أتذكر عدد المرات التي شاهدت فيها اوبريت الليلة الكبيرة، التي في كل مرة أجدني فيها مسمرة ومسحورة كأنها المرة الأولى، لأن فنه لا يترك لك خيار إلا التسليم والانقياد له، فهو قد تمكن من امتصاص عادات وتقاليد شخصيات الحارة المصرية بطقوسها الاحتفالية كلها، وهضمها جوفه اللي بلا قاع حتى فاض نهره بكل هذا الفن المبهر والمعقد في قمة بساطته وعبقريته لحد الإبهام والإلهام والعذاب والجنوح وهجوم الأسئلة فهو شاعر ببصيرة الرسام، ورسام ببصيرة الفيلسوف، وفيلسوف قبض على جوهر التناقضات كلها في روح شفافة رزحت تحت ثقل فن غول لا يرحم، يتغذى على طاقة خالقه ولذا أقول من منا لا يحب صلاح جاهين؟

ولكن للأسف اكتشفت أن ابني لا يحب، أو بالأحرى لا يستوعب، فن صلاح جاهين وكنت سعيدة بل طائرة من الفرح وأنا أصطحبه معي لحضور اوبريت الليلة الكبيرة، حين عرضت في الكويت بدعوة من المجلس الوطني للثقافة والفنون، ولكن من بعد مضي الجزء الأول من العرض وجدته يريد الخروج لأنه شعر بالملل

وسئم من العرض، وبالكاد أنهى المشاهدة معي، وإلى اليوم يعيرني برداءة ذوقي ومستواي الفني، وطبعا أحزنني كثيرا عدم تذوقه وعدم فهمه لطبيعة العمل المذهل لصلاح جاهين، فهناك فرق ما بين جيلي وجيله، فأنا من جيل تربى مع المدرس المصري، ومع الأفلام الأغاني المصرية، ومع حب مصر وفهم عاداتها وتقاليدها وكل ما هو نابع منها، ومن هنا نبع الاختلاف وكم هو مؤلم هذا الاختلاف وإن كان لابد من تقبله واحترامه.