تُصادف الشهرَ المقبل ذكرى رحيل السينمائي والشاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني، (رحل عام 1975). ومع كل مناسبة تتعلق ببازوليني، يتم في الأوساط الثقافية الإيطالية خاصة والأوروبية عامة، إثارة وطرح الأسئلة من جديد حول مقتله، إذ إن أغلب هذه الأوساط، لايزال يشك في الرواية الرسمية المتعلقة بمصرعه، التي قام بها شاب، قيل إنه على علاقة به، ثم إن طريقة مقتله البشعة عبر دهسه، بدواليب السيارة أولاً، وآثار الضرب بقضبان حديدية التي اكتشفت في ما بعد، تدلل على أن مَن قام بهذه الجريمة أكثر من شخص واحد. وقد ذهبت بعض التحليلات منذ تلك الفترة وحتى الآن، إلى أن مَن يقف وراء مقتله هي جماعات فاشية مرتبطة بالأكليروس، وكانت أعمال بازوليني السينمائية والشعرية تهز كيان المجتمع الإيطالي، بفعل نقده الشديد والجذري للأجواء الثقافية والسياسية اليمينية المحافظة.
كان بازوليني، عن حق مثقفاً عضوياً وفق فهم جرامشي الذي تعرف بازوليني على كتاباته في فترة مبكرة من حياته. انخرط بازوليني بقوة في مجال الحراك الاجتماعي والثقافي في ايطاليا لمناصرة ومحاولة فهم الفئات الإيطالية الفقيرة، دون الالتجاء إلى البساطة والسطحية والابتذال.لقد اخترقت أعماله مناطق الذات، لإضاءة الجوانب الخفية في الإنسان، مزاوجاً بين الأساطير والرموز والتحليل النفسي.لم يكن بيير باولو بازوليني سينمائياً وناقداً فحسب، بل كان «روائياً» مفعماً بروح قلقة، متعدد الاهتمامات، منشغلاً بقضايا ثقافية، وفنية (كان شاعراً وروائياً ورساماً) على نحو عميق وظل هكذا حتى مقتله المأساوي عام 1975. استفاد بازوليني في تجاربه السينمائية الأولى من جيل الواقعية الجديدة التي شهدتها ايطاليا، في أوائل الخمسينيات، ممثلة في فيتوريو دي سيكا، ارامانو اولمي، لوشينو فسكونتي، ثم قام في ما بعد على بلورة منظور سينمائي أكثر شخصية، وكانت العلامة الفارقة في مسيرته الفنية هي انتقاله من الأدب إلى الصورة السينمائية دون أن يعني هذا الانتقال قطيعة نهائية مع الكتابة الأدبية. ومن أعماله الروائية المبكرة «أبناء الحياة» و«حياة عنيفة» بالإضافة إلى أعماله الشعرية وأبحاثه الرائدة في مجال الصورة وعلم الدلالة. عاش بازوليني حياته بتقاطع كامل مع إبداعه وكان مثقفاً مشاكساً في الوسط الثقافي الإيطالي، وكانت الفرويدية والماركسية تشكلان عنصرين أساسيين في اهتماماته. تعرف بازوليني على الماركسية عبر كتابات المفكر الإيطالي الأبرز أنطونيو جرامشي. ان بعضاً من أفلامه، مثل «سالو» و«نظرية» بأبعاده الجمالية، كان يشكل نقداً عميقاً وحاسماً للقيم البرجوازية المرتبطة بالأكليروس، وعنف الأنظمة الحديثة على نحو عام، وكان فيلم «سالو أو 120 يوماً في سدوم» آخر أفلامه، وهو أكثرها نقداً وسخرية.بدأت حياة بازوليني كمخرج سينمائي بفلمي أكاتوني 1961، وماما روما، 1962، اهتم فيهما بإظهار أحياء روما الفقيرة والمهمشة. ففي فيلم «أكاتوني» استمد بازوليني مادته من الأحياء الشعبية الفقيرة في روما، والتي شكلت جزءاً من تجربته الشخصية، إذ إنه عاش فيها حياة صعبة وقاسية مع المهمشين. رصد بازوليني في هذا الفيلم شخصيات من القاع، تحديداً أولئك المنحدرين من الجنوب الإيطالي، وإذا كانت هذه الموضوعة قريبة إلى حد ما من سينما «الواقعية الجديدة» من حيث تصوير الأماكن الحية خارج الاستوديو واستخدام عناصر غير محترفة في التمثيل فإنه عبّر عن ذلك كله عبر تجربته الشخصية، وتعامل مع هذه النماذج ببالغ الحميمية متجنباً الوقوع في المبالغة الأيديولوجية الضيقة، ففي مشهد بالغ القوة يتصدى أربعة شبان عاطلين عن العمل لمومس في حديقة مهجورة، وبعد اغتصابها ينقلنا بازوليني فجأة إلى مشهد عام لمدينة روما بأنوارها البراقة، بينما نسمع في خلفية المشهد موسيقى باخ، وقد امتزجت بصراخ المرأة المستغيثة. إن هذا المشهد المكثف بصرياً وشعرياً لا يُظهر شراسة المدينة فحسب، بل أيضاً العنف الكامن في المجتمعات الرأسمالية الحديثة. وجَّه بازوليني جُلَّ اهتمامه من أجل خلق لغة سينمائية تحتفي بالمجاز والاستعارة عبر مقارنات وإحالات تم استخدامها بعناية فائقة.
توابل
بازوليني مجددا 1
07-10-2009