في شهر فبراير من عام 2005، أخذ طيف الملك الأوروبي الشهير شارلمان صبيحة أحد الأيام في ملاحقة الناخبين في برشلونة للتعرف على وجهات نظرهم قبل الاستفتاء الذي أجرته إسبانيا بشأن معاهدة الدستور الأوروبي المخطط لها، لكن تبين أن ذلك يستلزم بضع ساعات من العمل الشاق، فقد أبدى الناخبون، الواحد تلو الآخر، استغرابهم من أن أحداً قد يشكك في موافقتهم بشأن الدستور الأوروبي، فقد أجاب أحد المتقاعدين: "كيف لا يا رجل؟". وبعد المزيد من الحض، تقدّم المتقاعد بتفسير: "علينا أن ندعم أوروبا لأن ذلك يعني التقدم".

Ad

في وقت لاحق من ذلك العام، قُضي على الدستور بفعل تصويت فرنسا وهولندا بالرفض، بعد جدالات محتدمة بشأن الاستفتاء. (أعيد إنعاش الدستور باسم معاهدة لشبونة، مجموعة مماثلة تقريباً من التغييرات في القوانين، وقد طُبِّقت في شهر ديسمبر من عام 2009). لكن لم يتعرض استفتاء إسبانيا يوماً للتشكيك. فقد جال رئيس الوزراء الإسباني خوسيه لويس رودريغيز ثاباتيرو، في أنحاء البلاد المختلفة متحدثاً عن عشرات مليارات اليورو التي تدفقت إلى إسبانيا كإعانات منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي عام 1986. صرّح ثاباتيرو في التجمعات الحاشدة بأن 4 من أصل كل 10 كيلومترات من شبكة الطرقات السريعة في إسبانيا بُني بأموال أوروبية: والآن حان الوقت للتصويت بالإيجاب "كتعبير عن الامتنان".

لم يكن الأمر متعلقاً بالمال فحسب: غالباً ما يُعبَّر عن الحجج الداعمة أو المناهضة للاندماج الأوروبي من خلال الاقتصادات الموضوعية أو المصالح العقلانية، لكن أحد أسرار أوروبا الصغيرة يتمثل في أن الحركتين المناهضة والمؤيدة للاتحاد الأوروبي لا يُحدَّدان فعلاً بالعقل، بل بالقلب (التجربة الشخصية). من هنا فإن هويتك ومسقط رأسك أكثر أهمية من أي نظرية، بالنسبة إلى البريطانيين، مثّل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عام 1973 تصرفاً ينم إلى حد كبير عن البراغماتية الاقتصادية، أما بالنسبة إلى الإسبان الكبار بما يكفي ليتذكروا فرانكو، فقد بدا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أشبه بالإنجاز الأبرز في مسيرة تحرير طويلة، يتحدث الإسبان عن "أوروبا" باعتبارها مرتبطة عاطفياً بظهور الديمقراطية، الخروج من العزلة في شبه الجزيرة الأيبِيرِية الريفية المحافظة، حتى (في برشلونة) بكسر القواعد السائدة في عهد فرانكو والتي قمعت اللغة الكاتالونية. كان لعبارة "الدستور الأوروبي" إيحاءات إيجابية، بفضل احترام الإسبان لدستورهم الأول بعد الحقبة الفاشية، الذي سُنَّ عام 1978 ومازال يُحتفى به من خلال عيد رسمي سنوي.

تساعد كل هذه الحماسة لأوروبا في تفسير سبب تضخيم حكومة ثاباتيرو واقع أن إسبانيا تسلمت الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي على مدى ستة أشهر في أول يناير. فبعد مضي 5 أيام على ذلك، وصلت مجموعة من الشخصيات الأوروبية التي تبوأت سابقاً مناصب رفيعة، من بينها الرئيس السابق للمفوضية الاوروبية جاك ديلور، إلى مدريد لمناقشة حلم إسبانيا الكبيرة خلال ترؤس الاجتماعات الوزارية: إطلاق "استراتيجية عام 2020" الخاصة بأوروبا. تمثل هذه الاستراتيجية خطة تمتد على 10 سنوات وتهدف إلى تعزيز التنافسية والنمو لتسديد ثمن أنظمة الرعاية الاجتماعية الأوروبية السخية. وتلي هذه الاستراتيجية خطة أخرى امتدت على 10 سنوات، "استراتيجية لشبونة" القديمة، التي أخفقت أشد إخفاق في مسعاها الهادف إلى جعل الاتحاد الأوروبي "الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة الأكثر تنافسية وديناميكية" بحلول عام 2010.

لكن للأسف، لم يكن رد الفعل متحمساً، فالبطالة في إسبانيا تكاد تبلغ 20 في المئة (ضعفا المتوسط في دول منطقة اليورو)، بعد انفجار فقاعة إسكان ضخمة. وما يزيد الأمر سوءاً هو سوق عمل مزدوجة من شبه المستحيل فيها صرف مجموعة مخلصة من العمال الدائمين، مما يلقي بالمعاناة على كاهل العاملين بموجب عقود مؤقتة، وغالباً ما يكون هؤلاء من الشبان والمهاجرين. والملفت أن الافتتاحيات في كل أنحاء الاتحاد الاوروبي سخرت من فكرة أن ثاباتيرو يقدم النصح لأوروبا في ما يتعلق بالانتعاش الاقتصادي.

كذلك لعدائية الأجانب أسباب أخرى، ومن بين هذه الأسباب الصدمة المتأخرة بسبب استمرار الرئاسة الدورية الممتدة على 6 أشهر، فقد نصت معاهدة لشبونة على إنشاء رئيس دائم جديد ليترأس اجتماعات الحكومات الوطنية في المجلس الأوروبي، ومسؤول عن السياسة الخارجية يترأس اجتماعات وزراء الخارجية. ولكن تمتلئ بروكسل بشائعات تفيد بأن رئيس المجلس الجديد، هيرمان فان رومبي، الذي استلم منصبه في 4 يناير، سيخوض مع ثاباتيرو صراع من أجل البروز، فثمة تبجح كبير في إصرار إسبانيا على استضافة قمة تجمع بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في مدريد في شهر مايو المقبل، وبذلك يستطيع ثاباتيرو الترحيب بباراك أوباما على الأراضي الإسبانية، على الرغم من أن البعض يقول إن فان رومبي يملك الحق باستضافة القمة في بروكسل. يعتبر البعض ذلك كله مجرد تصرفات فظة من البيروقراطيين الأوروبيين المملين، لكنه بعض هذه العدائية له دلالات مهمة.

الإحجام في إسبانيا

ترمز إسبانيا على الصعيد الوطني إلى ميول أوروبية أوسع نطاقاً، فقد لقي اقتصادها المزدهر الثناء، طوال سنوات، من قبل أولئك الذين أيدوا (عن حق) نموذج توسيع للاتحاد الأوروبي يستند إلى المنافسة، وإزالة الحواجز التجارية، والنمو المتوازن. فعندما انضمت إسبانيا إلى الاتحاد، كانت دولة فقيرة ريفية تميل إلى الحمائية. وقبل وقت طويل من تحول اليد العاملة الرخيصة الآتية من أوروبا الوسطى إلى عملاق مخيف، خشيت الدول المجاورة، على غرار فرنسا، ما قد تواجهه من منافسة بسبب الطماطم وعمال البناء الإسبان المنخفضي التكلفة. وتمثلت الصفقة مع إسبانيا في رفع الحواجز التجارية والقبول بالمنافسة ضمن السوق الواحدة الحديثة العهد مقابل حصولها على أموال نقدية تساعدها في الانتقال إلى الحداثة. وعلى مدى أكثر من عقدين، بدا أن الطرفين يحققان مكاسب، فقد تمكنت إسبانيا من الانتقال إلى الحداثة بشكل كبير وازدهرت التجارة المتبادلة مع بقية دول أوروبا، وسواء أعجبكم ذلك أم لا، تعتبر المعاناة الاقتصادية الإسبانية صفعة لنموذج التقارب ذاك.

في ما بعد، ستمثل سوق العمل الإسبانية الجامدة والمكلفة اختباراً لمنطقة اليورو، وإذا كانت الدول التي تعتمد اليورو تملك الإرادة السياسية لاستعادة التنافسية من خلال خفض تكلفات اليد العاملة، فهي لا تستطيع الآن خفض قيمة عملتها الخاصة.

وأخيراً، يقدّم الواقع الإسباني تحذيرات بشأن كون الدولة قوة متوسطة الحجم في عصر تسيطر عليه أكثر فأكثر الدول العملاقة الناشئة. قاتلت إسبانيا بعنف لتحظى بدعوة إلى القمم الحديثة التي عقدتها مجموعة الدول العشرين، لكن ثاباتيرو لم ينجح إلا في إبراز واقع أن أوروبيين كثراً يجلسون إلى الطاولة، وعلى الاتحاد الأوروبي، الذي يضم مجموعة من القوى المتوسطة الحجم التي تملك الكثير من الأفكار بشأن الطريقة التي ينبغي للعالم إدارة أعماله بها (وبخاصة في ما يتعلق بالتغير المناخي والتنظيمات المالية)، أن يفكر في العِبر المستمدة من إسبانيا، فإذا أردت أن يصغي الآخرون إلى نصيحتك، ينبغي أن تقول شيئاً مقنعاً.