حديقة الانسان: عكس السير


نشر في 21-08-2009
آخر تحديث 21-08-2009 | 00:01
 أحمد مطر إنه برغم انتزاع «بينوشيه» آلاف الأرواح، وبرغم أن الدورية قد سحبت منه المفاتيح ورخصة القيادة منذ أعوام عدة، وبرغم كونه يستحق الإعدام ألف مرة، لقاء حوادث القتل التي ارتكبها.. ظل يعتقد، حتى النهاية، أنه كان يسير في الاتجاه الصحيح، وأن جميع ضحاياه الأموات والأحياء، هم السائرون في الاتجاه الخطأ!

في مدينة بيرن السويسرية، كان رجل في السادسة والثمانين من عمره، يقود سيارته على الطريق السريع.

وهذا أمر ليس فيه أي غرابة، لكن الغريب هو أن ذلك الرجل كان يسير في الاتجاه الخطأ بمواجهة طوفان من السيارات المسرعة!

هل أدرك أنه ماض في الطريق الخطأ؟

كلا.. بل كان مقتنعا بأن جميع السائقين الآخرين هم من كانوا يسيرون عكس الاتجاه، ولذلك فإنه كان يشعل المصابيح العالية في وجوه أولئك الحمقى القادمين نحوه لتنبيههم إلى خطئهم!

ولأن الشارع كان يبدو له مزدحما بعدد هائل من هؤلاء المجانين الذين يقودون سياراتهم في الاتجاه غير الصحيح، فإن الرجل الثمانيني الحكيم ما إن رأى دورية للشرطة متوقفة على جانب الطريق حتى توقف وعبر لهم عن شكواه من مخالفة السائقين الآخرين!

بلطف شديد، انتزع رجال الدورية مفاتيح سيارة العجوز، ثم أوصلوه بسيارتهم إلى بيته.

تلك كانت هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الرجل من نفسه، وإنقاذ الناس من رعونته.

ومع أن حجم الكارثة التي كان ممكنا أن تتسبب فيها قيادة هذا الرجل، يظل صغيرا جدا بالمقارنة مع قيادة أمثاله لأوطان بكامل ما فيها من ملايين البشر، فإننا إذ نضحك ساخرين من رعونة العجوز، نشعر بكل عار الدنيا، ونصرخ محتجين، إذا ما انتزعت دورية- أي دورية- مفاتيح القيادة من سائق مجنون يقود الوطن بأكمله على طريق الهلاك المحقق!

من حسن حظ الرجل السويسري الثمانيني أنه لم يصطحب معه هيئة قضائية تشجب تصرف رجال الشرطة.

ومن حسن حظ الناس أنه لم يسحب وراءه قطيعا من العربان المسمنين بالكوبونات، ليتظاهروا تضامنا معه، مستنكرين أن تغلق الدورية حنفية (الروح والدم) التي فتحوها على آخرها فداء لكوارثه المقدسة.

فالواضح من مجرى حكاية العجوز السويسري أنه استسلم في النهاية وأذعن للشرطة، لكن الأمر، للأسف، لا يجري بمثل هذه السهولة مع سائقي الأوطان المجانين.

قبل وفاته، شاهدت، على شاشة التلفزيون، جزار تشيلي البغيض «أوغستو بينوشيه» الذي كاد يبلغ التسعين، وهو يصرح قائلا: «إنهم يريدون مني الاعتذار عما فعلته.. لكن ماذا فعلت لكي أعتذر؟»!

إنه برغم انتزاعه آلاف الأرواح، وبرغم أن الدورية قد سحبت منه المفاتيح ورخصة القيادة منذ أعوام عدة، وبرغم كونه يستحق الإعدام ألف مرة، لقاء حوادث القتل التي ارتكبها.. ظل يعتقد، حتى النهاية، أنه كان يسير في الاتجاه الصحيح، وأن جميع ضحاياه الأموات والأحياء، هم السائرون في الاتجاه الخطأ!

* شاعر عراقي

back to top