في تلك السنوات كنت على أبواب الثانوية العامة، وكان «محسن البراك، أبوبراك» في بدء طريق الخمسين. حين أنظر اللحظة إلى الوراء، أرى من بين ضباب سنوات العمر المنقضية، شاباً طري العود، نافد الصبر، مندفعاً يضج بحيويته وأحلامه، لا يطيق امتداداً لحكاية أو حادثة.
حين التقيت أبا براك استشعر قلبي اختلافاً في حضور الرجل، كان مدمن صمتٍ، وإذا ما تحدث حمل صوته صدقاً آسراً، ولفت نظري شيء أقرب إلى الوجع يكمن خلف نظرته. في تلك السنوات، لم تكن منعطفات الطريق لتخطر ببالي، كل شيء مغطى بلحاف الغد. بهدوء أخذ أبوبراك بيدي، اقترح عليَّ: «نقرأ معاً». قرابة ثلاثة عقود تفصل بين عمرينا، لكنه تعامل معي وكأني في عمره، وودٌ صاف واحترام تسرب ذلك لقلبي.أبوبراك «المعلم الأول»، أخذ بيدي، معاً بدأنا رحلة قراءاتي، وكانت تجمعنا جلسات ما بعد القراءة، يشرح لي ما غمض عليَّ، ويشير تصريحاً لأمور بعينها، وتلميحاً لأمور أخرى، وما كنت أظن أن قلبي وفكري يتشربان بكلمات الرجل.مع أبي براك ذقت طعم القراءة الأول، ومعه طرقت باب لذة خلوة القراءة، ومعه أيضاً بدأت أفهم أن للحرف معنى ظاهرا، ومعاني خفية، لكن المعنيين، يحملان دوماً نَفَساً واحداً، وروحاً واحدة. أبوبراك أفهمني أن الحرف أبقى من صاحبه، وقال لي: «الكتبُ أطول عمراً من كتّابها»، وقتها لم تستوقفني العبارة، ولا خطر ببالي عمق مدلولها، لكن، الآن، وبعد مضي قرابة ثلاثة عقود، يدرك قلبي المعنى، وتتشرب روحي الواقع.لك الرحمة يا أبا براك، كم كنت إنساناً، وكم كنت معلماً؟حين بدأت القراءة، ما كنت أظن أنها ستكون الطريق، ولا ظننتها ستكون الخطوة والعمر... اذكر ملامح وجهه الصافية، لحظة قال لي: «تتغير الأزمان وتبقى المبادئ والقيم». أي مبادئ وقيم غرسها أبو براك في ضميري دون أن يصرح بها؟ وأي عهد أخذه عليَّ ولا تجد روحي فكاكاً منه؟يا أبا براك، المسير صعب، وكثيرة عثرات الطريق، وثقيل الوفاء بالعهد، لكنني أعلمك، وروحك الطاهرة مستريحة في مثواها الأخير، أنني ما زلت وفياً لما تعاهدنا عليه، وأنني أزداد كل يوم إيماناً وعشقاً للحق والخير والحرية والعدل والديمقراطية والحب والطفولة والسلام، وأنني باق وهوسي بالقراءة والموسيقى، وأنني زدت على ذلك هياماً باللوحة الفنية.يا أبا براك، يرحمك الله، كنت المعلم الأول دون ادعاء ودون كبر، وكنت تسرب بعض روحك الطيبة مع كلماتك، والآن أنا متأكد من أنك كنت تعلم علم اليقين أن كتابتك على صفحة قلبي لن تذهب هباءً.يا أبا براك، نسيت أن أخبرك أنني ما زلت أيضا ازداد عشقاً بصوت فيروز.
توابل
المعلم الأول
15-12-2009