تندر أحد الأصدقاء على مقالي السابق قائلاً بأني «خربتها وقعدت على تلها» بهذا المقال، لأنه ما كان ليرضي فريق رئيس الوزراء بطبيعة الحال، وما كان في المقابل ليرضي الفريق الخصم الذي يطالبه بالرحيل. صديقي هذا يشاغبني، فهو يدرك أني لم أكن أبحث عن رضا هذا الطرف أو ذاك، بل أعبر عن فكرتي فحسب، وأني لطالما عبرت عن كثير من أفكاري متجرداً من أي حسابات.

Ad

حين كتبت رجائي لسمو الرئيس بالترجل في ذلك المقال، جاء ذلك انبعاثاً من حس إنساني ممتزج باستشراف وقراءة لمستقبل لم أره مشرقاً في ظل تقلص الخيارات وضيق السبل، فلا يمكن لأحد إلا أن يقول إن العلاقة بين السلطتين قد وصلت إلى طريق مسدود بحق، والإصرار النيابي على استجواب رئيس الوزراء ووزرائه لا ينقطع، ولن ينقطع مادام أن هذا الحق قد كفله الدستور لهم تاركاً استخدامه «لتقديرهم»، ولا يمكن لأحد الركون إلى حسن هذا التقدير، فالنواب من مشارب شتى وأفهام متفاوتة كصندوق الدنيا، وحتماً سيأتي بالعجائب!

حسبي في المقال السابق أن تناولت الأمر من زاوية التحليل الشخصي المبني على التعاطف الإنساني مع الشيخ ناصر المحمد الذي لا يختلف على نبل شخصيته والخصال الإنسانية الكبيرة التي يتميز بها أحد، وكنت أريد أن أترفع به عن معركة رأيت كل أطرافها مهزومين حتى إن ظنوا غير ذلك، وكله على حساب الوطن، ولم يكن ليغيب عن بالي أن قرار ترجله من عدمه، بيده هو نفسه، وقبل ذلك بيد سمو الأمير طبعاً، لذلك إن كان بعض من اعترضوا على مقالي وعارضوا فكرتي يرون أن ترجله سيفسر على أنه إقرار بالخطأ، وانكسار أمام خصوم يصرون على التأزيم، فلا مجال إذن إلا بمواجهة هذه الاستجوابات- حتى إن كثرت وتكاثرت- ومقارعتها.

استجواب فيصل المسلم لرئيس الوزراء، مع تمسكي برأيي حول هذا الاستجواب وهو ما كتبته منذ أيام، لابد من مواجهته، وبجلسة علنية، فمن مستلزمات المواجهة الشجاعة أن يكون الأمر واضحاً شفافاً، واستجواب مسلم البراك لوزير الداخلية كذلك مستحق وبقوة ولابد للوزير أن يصعد المنصة، واستجواب مبارك الوعلان لوزير الأشغال، وبعيداً عن محاولة البعض الاستخفاف بمادته لطولها، إلا أنه استجواب مهم يحوي اتهامات خطيرة وقادحة بعدالة وذمة الوزير فاضل صفر، ولابد من التصدي له حتى لا تتكرر قصة وزير الأوقاف الأسبق د.عبدالله المعتوق حين أقيل وهو راغب في مواجهة وتفنيد اتهامات التكتل السلفي لذمته المالية، وكذلك تجب مواجهة استجواب ضيف الله بورمية لوزير الدفاع.

وبالمقابل فمجرد التفكير في حل البرلمان للتنصل من المواجهة هو تفكير باهت، فالحل لن يساهم إلا في تأجيج المشاكل نفسها، وإن قام بتأجيلها لبعض الوقت، لأنه في غضون شهور قليلة ستثور مجدداً بعد عودة نفس وجوه نواب المواجهة، وبضراوة أشد وباستناد إلى تأييد شعبي أكبر.

أما التفكير في الحل غير الدستوري، فهو تفكير سقيم، فهذا الخيار لا يجب أن يدور في الأذهان من الأساس أصلاً في ظل تفاخرنا الدائم بالدستور والديمقراطية، ناهيك عن أنها مغامرة خطيرة ستقلب الأمور رأساً على عقب في الغالب، وسيكون الجميع خاسرين حتى إن بدت الأمور غير ذلك في ظاهرها في البدايات. صحيح أني لا أتوقع شخصياً أي مواجهات عنيفة بين النظام والشعب، خصوصاً إن رافق قرار الحل قرارت «شعبوية» عليا كإسقاط قروض المواطنين مثلاً، وذلك بسبب الطبيعة الأنثروبولوجية لهذا الشعب، لكنني أدرك أن سائر الظروف والملابسات قد تغيرت عن عام 1986م، محلياً وإقليمياً، وبالأخص انفتاح المجال الإعلامي بشكل مهول، وعليه فإن الحل غير الدستوري في عام 86 وبما تبعه من أحداث، سيكون أشبه بالنزهة مقارنة بما قد يحدث هذه المرة.

هذه هي حقيقة الصورة بكل ألوانها، ولا مجال إلا بمواجهة الحقائق ولا مجال لدفن الرأس في الرمال، والحق أحق أن يتبع!

***

قد أختلف مع الأسلوب الذي يستخدمه الأستاذ محمد عبدالقادر الجاسم في كتاباته حول المشهد السياسي، وبالأخص حين ينتقد رئيس الوزراء، وإن كنت أؤمن وأدافع عن حقه في طرح رؤاه وأفكاره بكل حرية لأن هذه هي الديمقراطية، وفي المقابل أؤمن بحق رئيس الوزراء أن يشتكيه أمام القضاء حين يستشعر أنه قد خرج عن دائرة النقد المباح، مع الإيمان التام بنزاهة القضاء والثقة باستقلاله، لكنني أستنكر نزوع النيابة إلى حجز الأستاذ الجاسم بالأمس على ذمة إحدى هذه القضايا وإصرارها على دفعه لكفالة مالية، مع أن المألوف في قضايا الرأي أن يُخلّى سبيل المتهم إما بلا ضمان وإما بضمان شخصه ومحل سكنه.

هذه الخطوة الخارجة عن المألوف لن يتم فهمها إلا بصورة سلبية، وكلي أمل أن يعاد النظر في الأمر، لأن حصننا الوحيد الباقي بعدما دُكّت أغلب الحصون هو الأمان والاطمئنان والحرية التي كان يستشعرها الناس في ظل أسرة الحكم في هذه البلاد.