-1-
كنّا قد بيّنا من خلال عدة مقالات كتبناها سابقاً، أن الفساد المالي في العراق قد بلغ حده الأقصى بعد 2003، وأن ثروات العراق الكبيرة والنادرة، أصبحت نهباً للسياسيين وأزلامهم للأسف الشديد، دون حسيب أو رقيب. واستعرضنا عدة تقارير أصدرتها "منظمة الشفافية الدولية"، تقول على لسان ديفيد نوسبوم، المدير التنفيذي لـهذه المنظمة، أن الفساد في العراق متفاقم، وأن العراق أكثر دول العالم فساداً!وتضيف تقارير "منظمة الشفافية الدولية" في مجملها، إلى أن أميركا لعبت دوراً لا يُغتفر في انتشار الفساد المالي والسياسي في العراق بعد ثورة 2003، فقد انتقد تقرير "منظمة الشفافية الدولية" لعام 2007– مثلاً- بصراحة ووضوح، سياسة الولايات المتحدة، في منح عقود الاستثمار في العراق، ووصفها بأنها سرية، وبأنها منحازة لبعض الشركات الكبرى. وتتفق "منظمة الشفافية الدولية"، مع بعض هيئات الأمم المتحدة، مثل "الهيئة الاستشارية الدولية للأمم المتحدة"، التي قالت في تقرير لها صدر في كانون الثاني-يناير 2005، إن الولايات المتحدة أعطت عقوداً للاستثمار في مجال النفط لشركة هاليبورتون، وشركات أخرى بدون إجراء مناقصة. وهذه واحدة من جنايات سياسة الإدارة الأميركية على العراق، والتي تجبُّ ما قبلها من حسنات وإيجابيات، ولكن وسائل الإعلام الأميركي، لم تترك مثل هذه الفضائح تمرُّ بسلام، وكتمان، وسرية، دون أن تُعلنه، وتفضحه.-2-كنعان مكيّة، البروفسور العراقي في الهندسة المعمارية، ورئيس قسم الشرق الأوسط بجامعة "براندايس" الأميركية في بوسطن، وصاحب مشروع وثيقة "ميثاق 1991" الذي يمثل دعوة لبناء عراق جديد، وأكبر مالك لوثائق رسمية من عهد صدام (7ملايين وثيقة)، وأحد أقطاب "الانتجلنسيا العراقية" التي أقنعت إدارة بوش بغزو العراق، والإطاحة بصدام حسين، والذي سبق له، أن أصدر كتابه الشهير "جمهورية الخوف، 1989" الذي كشف فيه عن جمهورية القمع والطغيان في عهد صدام حسين، قال في لقاء صحافي قبل أيام، إن العراق قد انتقل من تحت "الدلف إلى تحت المزراب". ومن "جمهورية الخوف" السابقة إلى "جمهورية الفساد" اللاحقة، وبناءً عليه، فهو غير متفائل بمستقبل الديمقراطية العراقية القريب، نتيجة لذلك.وأنا أتفق مع صديقي- الذي التقيته في إحدى الفعاليات الثقافية- كل الاتفاق، بل إنني في بعض الأحيان، وفي الفترة الأخيرة خاصة، أصبحت متشائماً وغير متفائل من مستقبل العراق القريب، نتيجة للفساد المستشري فيه، والنهب والسلب العام لثرواته، دون حسيب أو رقيب. وكأن من يحكم العراق الآن هم المغول الذين غزوه عام 1258م، وليس نخبة من أبنائه السياسيين، الذين كانوا يحلمون أحلاماً عصيّة التحقيق، لما هم فيه الآن.-3-لقد سقطت "جمهورية الخوف"، بفعل الإرادة الشعبية العراقية، وبمساعدة الأصدقاء الغربيين، وعلى رأسهم أميركا (وريثة الاستعمار البريطاني في العالم العربي ومنطقة الخليج والعراق خاصة) وبريطانيا (الاستعمار التقليدي لمنطقة الخليج والعراق في النصف الأول من القرن العشرين). في حين ظل العرب– كعادتهم ودورهم الآن كمتفرج فقط على العالم، دون أي مساهمة أو دور- يتفرجون على "جمهورية الخوف" من بعيد، دون أن يحركوا ساكناً، ولكن هذا "الساكن" تحرك بعد سقوط "جمهورية الخوف"، أملاً في استرجاع "جمهورية الخوف" وإقامتها ثانية، لكي لا تسقط "أنظمة الخوف" الأخرى في العالم العربي. وبدا قسمٌ من الحكّام العرب والعجم الآن، فرحين لاستبدال "جمهورية الخوف" بـ"جمهورية الفساد" في العراق، للتدليل على أن البديل للظلم والطغيان، هو الفساد والتشرذم، كما هي حال العراق الجديد الآن.-4-ردَّ المفكر السياسي العراقي كنعان مكيّة، في تحليله للوضع العراقي القائم الآن، أسباب الفساد، الذي وصفته "منظمة الشفافية الدولية"، بأنه أكبر فضيحة في التاريخ، إلى عوامل كثيرة، منها:1- افتقاد روح المواطنة في النخب السياسية العراقية، فقد أظهرت الانتخابات التشريعية الأخيرة أن المصالح الشخصية، والنفع الذاتي، هو الهدف الأول من السعي إلى الأكثرية النيابية. فالدولة العراقية– كما قال مكيّة– من المستحيل أن تُبنى من دون وجود "روح المواطنة"، فروح المواطنة كانت موجودة من قبل، ولكن- كما قال مكية في كتابه "جمهورية الخوف"- جمهورية الخوف قتلت فكرة المواطنة، واستبدلتها بفكرة "عبادة الفرد" الأحد الصمد، وتطويع العبيد لعبادة الفرد، بالحديد والنار.2- ظهرت في العراق شريحة سياسية جديدة بعد 2003، وهي التي تتحرك على الساحة العراقية الآن، والقاسم المشترك بينها، هو أن أفرادها لا يعرفون ماذا يريدون، وغير واثقين من أنفسهم، ولا يشعرون بأن دولة العراق دولتهم، بل العكس، فالمرادف العراقي لهذا هو النهب، وللأسف، فهذا ما تورَّطت فيه أغلبية السياسيين. فعندما سقطت "جمهورية الخوف"، صارت هناك عملية نهب هائلة، دون خوف! ويقول مكيّة إن هذه الظاهرة غير مسبوقة، وعلى كثرة ما كتب العالم الاجتماعي العراقي علي الوردي عن ظاهرة النهب، فإنه لن يستطيع أن يتخيّل ما حدث بعد عام 2003. وهذه الظاهرة بدأت عام 1991، وكانت بسيطة قياساً بما حدث بعد 2003. وهذا يدلنا على صورة العلاقة بين المواطن والدولة في الماضي والحاضر، ويعزو مكيّة هذه الظاهرة إلى 35 عاماً من القمع ونظام البعث، التي أثرت كثيراً في علاقة المواطن بالدولة.3- عدم احترام الدستور. وتاريخنا العربي مخجل مع الدساتير، حيث اعتُبرت الدساتير مجرد أوراق، يمكن تمزيقها ودوسها كما قال صدام حسين، وفي العراق الجديد، لا احترام للدستور الحالي كما يجب، رغم الاستفتاء الشعبي عليه.-5-فهل يتخلص العراق من "جمهورية الفساد"، كما سبق أن تخلص من "جمهورية الخوف"؟ أم أن الأمر يحتاج إلى حملة عسكرية وسياسية أميركية جديدة؟نأمل أن يتم ذلك، من خلال وعي الشعب العراقي كافة، بأهمية دورهم التاريخي الآن تجاه وطنهم، وتجاه الآخرين، ممن ينتظرون مآل العراق الجديد.* كاتب أردني
مقالات
العراق: لماذا من جمهورية الخوف إلى جمهورية الفساد؟!
24-03-2010