كالعادة تميز مهرجان كارلوفيفاري السينمائي في عامه الـ45 بأفلام متنوعة، أغلبها حاز جوائز مهرجانات مهمة مثل مهرجان «كان» السينمائي، وبرلين، وترونتو، وكييف، وفنيسيا، وبودابست وغيرها.

Ad

وأيضا كالعادة حافظ المهرجان على التقسيمات ذاتها التي تندرج جميع الأفلام تحتها، فهناك أفلام تدخل ضمن المنافسة الرسمية، وهناك أفلام تقع خارجها، وكذلك الحال مع الأفلام الوثائقية التي يدخل بعضها ضمن المنافسة والبعض الآخر خارجها، وهناك أيضا الأفلام المتنافسة والأفلام المستقلة وأيضا الأفلام الكرتونية.

وتتكرر ذات المشكلة في كل عام، ألا وهي نفاذ جميع تذاكر الأفلام المتميزة أو تلك الحاصلة على الجوائز، والملاحظ في كل عام هو ازدياد عدد المشاهدين للأفلام الشرق الأوسطية خاصة التركية والإيرانية والإسرائيلية، وباتت الأفلام الإيرانية تحظى بجمهور كبير.

ومن الأفلام المختلفة والمتميزة التي شاهدتها في مهرجان هذا العام، الفيلم التركي Bal الحائز جائزة الدب الذهبي، وجائزة التحكيم في Berlinale، وهو إنتاج تركي- ألماني، ومن إخراج Semih Kaplanoglu.

هذا الفيلم كأنه علامة لفاتحة طريق سينمائي جديد، فهو مختلف تماما عما اعتدناه من الأفلام السينمائية، الحوار فيه شبه معدوم، وتقريبا بلا حكاية بمعناها الواسع وبسكربت مختلف عما عرفناه.

الحكاية ببساطة تدور حول جامع العسل الساكن في مقاطعة الغابات الجبلية مع زوجته وابنه الصغير، وفي إحدى رحلاته للبحث عن موقع جديد لتركيب منحلة، يسقط من أعلى الشجرة ويموت، هذه هي كل الحكاية التي عالجها الفيلم بشكل سينمائي غير عادي.

الفيلم كما قلت يكاد يخلو من الحوار اللهم جملة من هنا أو من هناك، ومع هذا الصمت المتعمد، نفذ الفيلم مثل السهم ليخترق حواس المشاهدين وسمرهم في مقاعدهم طوال عرض الفيلم، وهذا ما كان يسعى إليه المخرج من خلال كاميرته التي تتنقل ببطء شديد ما بين الصمت وحركة الضوء، وتعبير الطبيعة والوجوه التي شدت المشاهد منذ المشهد الأول، حين تفتح الشاشة على عمق الغابة واتساعها وبتقاطر الضوء من بين أوراقها، ومن خلال صمتها الشاسع والممتد في سكون أبدي، وباخضرارها المتدرج في ألوانه التي تتقاسمها الظلال والنور والعتمة.

يُبقي المخرج كاميرته على هذا المشهد فترة طويلة أثارة استغرابي في البداية من طول زمنها، إلى أن يلوح في أقصى الغابة نقطة صغيرة تكبر على مهلها حتى يظهر جامع العسل مع حماره في وسط المشهد، ويبدأ في اختبار المكان ببطء شديد إلى أن يهتدي الى البقعة الصالحة لعمله، ومن ثم يرمي حبله حول الشجرة، ويبدأ في تسلقها وقبل أن يصل قمتها يهوي به الغصن، وتبقى الكاميرا مسلطة على وجهه وهو معلق ما بين الحياة والموت لتعود بنا إلى بداية الحكاية لنراه في بيته مع ابنه الصغير وعلاقتهما الحميمة مع الطبيعة ومع الصمت، حيث يدربه على الهمس حتى يتماهى مع سكون ما حوله.

في الصباح يطير الصقر ليقود ابنه إلى مدرسته من خلال دروب الغابة المضللة والضيقة، هذا الطفل يحلم بالفوز بالدبوس الذي يمنحه الأستاذ للطالب المتفوق، وفي نهاية الفيلم يحصل عليه ويركض بفرح ليريه لوالده، لكنه يصل إلى منزله ليكتشف وفاة والده.

هذه تقريبا كل الحكاية مع قليل من التفاصيل الحياتية البسيطة، وحتى نعود إلى موته.

المخرج أراد من هذا الصمت منذ البداية أن يُدخل المشاهد في سكينة السكون ثم من بعد ذلك يقوده إلى إدراك ما يحيط به، وليس ما يشاهده حتى يُغمر بالحياة ويشارك فيها ضمن المشاهد التي تمر به، كأنه يعيشها حتى يكاد يشم روائحها، وهسهسة نارها، وأريج زهورها، وطعم حليبها وطزاجة خبزها، وندى الفجر المغبش على النوافذ، والنور المتسلل على الشراشف والبلاط، والعتمة المنسحبة على مهلها، والأصوات الخافتة التي تكسر الصمت وتقتحم وحدته.

هذا الفيلم لا يُحكى ولكنه يعاش بيقظة الحواس كلها.