في المدرسة الفرنسية في الجزائر، كان التلامذة الصغار ينشدون صباح كل يوم {فرنسا أمنا}، لكن طفلة واحدة من بينهم، كانت من دونهم تنشد صارخة: {الجزائر أمنا}، فكان أن أخرجها الناظر الفرنسي من الطابور وأشبعها ضرباً، لكنها لم تتراجع أبداً عن نشيدها الوطني الخاص.

Ad

لما بلغت العشرين انتظمت الفتاة في صفوف المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، فأصبحت الأولى على قائمة المطاردين من المحتلين، ولم يفلحوا في القبض عليها إلا بعد إصابتها برصاصة في كتفها عام 1957. عندئذ بدأ مسلسل تعذيبها منذ دخولها المستشفى للعلاج. وعلى رغم أن جلاديها أذاقوها أنواع التعذيب كافة والصعق بالكهرباء، إلا أنها لم تعترف على أحد من زملائها أبداً، وكانت كلما أفاقت من غيبوبتها بعد التعذيب، تصرخ هاتفة: {الجزائر أمنا}.

بعد محاكمة صورية صدر الحكم بإعدامها، لكن العالم كله انتفض بوجه هذا الحكم الجائر، فعدل عنه إلى السجن المؤبد. غير أن هذا التأبيد لم يستمر سوى ثلاثة أعوام، إذ تحررت الجزائر {الأم}... وغادرت جميلة بوحيرد إلى حضن أمها، لتكون أحد أكبر رموز الحرية في العالم أجمع.

تلك معلومات بديهية منشورة في أكثر من مكان ومتداولة بين الناس منذ زمان بعيد، وإذا كان الجيل الطالع و{الرائع} لا يعرفها فإننا لا ندعوه إلى معرفتها، مقدرين تماماً ثمين وقته الواجب استثماره في التصويت لأبطال أكاديميات نجوم ليلنا المديد. لكننا، نحن الذين نعرفها، إنما نستذكرها، الآن، من أجل القيام للمرة المليون بواجب {التصويت} بكل ما تحمله كلمة التصويت من معنى العويل واللطم، حزناً وألماً وجزعاً وندماً على انطفاء آمالنا تماماً بالمستقبل (الحاضر) الذي أمضينا أعمارنا ننزف دماً لنسقي دوحته الموعودة، فإذا بنا نراها أمامنا، اليوم، كتلة من رماد.

دعوة الاستذكار هذه وجهها إلينا خبر نشرته جريدة {الشروق} اليومية الجزائرية في 12 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، وهو خبر كان له على عيني - وسيكون له على عيون كثيرين من العرب بلا ريب - أثر صفعة رنانة تطيّر الشرر، وتكوّم الغيظ، وتسكب المرارة والألم في أقصى مغاور الروح.

جميلة

عنوان الخبر وحده عصف بأحزاني الشخصية المتناسلة التي طالما كتمتها وحبست عنها رحمة الدمع، فوجدت في ما قرأته ذريعة لتحريض عيني على الهطول بلا توقف.

يقول العنوان: {جميلة بوحيرد تستغيث بالشعب الجزائري للعلاج في الخارج}... وفي تضاعيفه أنها وجهت رسالة الى الرئيس بوتفليقة تطلب منه زيادة معاشها!

هذه الأيقونة العربية التي قل أمثالها، ولم يخل بلد عربي من مدرسة أو شارع يحمل اسمها، والتي ترزح الآن تحت وطأة عامها الرابع والسبعين، كشفت في رسالتها المفتوحة الى الرئيس أنها أصبحت تقترض للحصول على قوت يومها بسبب محدودية ما تتقاضاه من معاش!

جاء في تلك الرسالة المؤرخة في التاسع من ديسمبر:}إلى السيد رئيس جزائر أردتها مستقلة. سيدي، اسمح لنفسي بلفت انتباهك إلى وضعيتي الحرجة، فتقاعدي ومعاشي الضئيل الذي اتقاضاه بسبب حرب التحرير لا يسمحان لي بالعيش الكريم، وكل من البقال والجزار والمحال التي أتسوق بها يمكن لهم أن يشهدوا على القروض التي يمنحونها لي. ولم أتخيل يوماً أن أعزز مداخيلي بطرق غير شرعية أصبحت للأسف منتشرة في بلدي... أنا أعلن أن بعض المجاهدين الحقيقيين والمجاهدات يعيشون نفس وضيعيتي، بل أسوأ منها... وبناء على هذا أطلب منكم أن تتوقفوا عن إهانتنا، وعليكم أن تراجعوا معاشنا الضئيل. ذلك حتى نكمل الوقت القليل المتبقي لنا في هذه الحياة بما يتناسب مع الحد الأدنى من الكرامة... مع تحياتي الوطنية - جميلة بوحيرد}.

أما رسالتها إلى أبناء الجزائر في التاريخ نفسه فجاء فيها: {إخواني وأخواتي الجزائريين الأعزاء... إنني إذ أتوجه بهذا الخطاب اليكم، فذلك لكونكم تمثلون هذا الشعب المتنوع والدافئ والمعطاء الذي أحببته دوماً. واليوم أجدني مضطرة لطلب مساعدتكم. إسمحوا لي أولا بأن أقدم لكم نفسي: أنا جميلة بوحيرد التي حكم عليها بالأعدام في عام 1957 من طرف المحكمة العسكرية في الجزائر العاصمة. إنني أجد نفسي اليوم في وضعية حرجة، فأنا مريضة والاطباء طلبوا مني إجراء ثلاث عمليات جراحية خطيرة وجد مكلفة لا يمكنني التكفل بها... لهذا أطلب منكم مساعدتي في حدود إمكاناتكم... وقبل أن أنهي رسالتي أريد أن أشكر بعض أمراء الخليج العربي الذين أعتبرهم إخواني من أجل سخائهم وتفهمهم، حيث عرضوا علي بعفوية وكرم التكفل بالنفقات العلاجية كافة، لكنني رفضت عرضهم. مع تشكراتي للاخوات والأخوة الجزائريين وحناني الأخوي - جميلة بوحيرد}.

في اليوم التالي على نشر الرسالتين قالت جريدة {الشروق} إنها تلقت آلاف الاتصالات، وإن آلاف الجزائريين في الداخل والخارج ممن تلقوا الخبر بصدمة وذهول وعدم تصديق، ومن بينهم فئة كبيرة من الأجيال الجديدة، أبدوا استعدادهم لتحمل جميع نفقات علاج البطلة {جميلة} رمز وطنهم وعزتهم وشرفهم. وأبدى بعض الجزائريين المقيمين في الخارج استعدادهم لوضع كل ما يملكون تحت تصرفها، فيما تساءلت أستاذة وهي تكفكف عبراتها عما يمكن أن تقوله بعد اليوم لتلميذاتها اللاتي تدرسهن حكاية هذه الأسطورة الحية؟!

الغريب أن ردود الأفعال إزاء هذه الصاعقة هزت مشاعر الجزائريين والعرب ممن قرأوا الخبر في كل مكان، لم تحمل، في ما أوردته الجريدة، أي رد فعل رسمي جزائري!

لدى قراءتي الخبر الصدمة، قلت في نفسي المكتظة بالمرارة: {هذا زمن يطيب فيه الموت العاجل}. ثم رددت قول حكيم المعرة: {فيا موت زر إن الحياة ذميمة... ويا نفس جدي إن دهرك هازل}.

وعدت أُسائل نفسي: جمهورية أسطورة الحرية {جميلة}، وجمهوريات جميع الأحرار والشرفاء والعباقرة العرب الآخرين {المسطورين} على وجوههم واقفيتهم إهانة وتجويعاً وتشريداً، هي كلها متخمة بالنفط إلى حد مفرط، فأين الخلل في مسألتها ومسألتهم؟

سرعان ما وقعت على الإجابة: الخلل كامن في ضحالة {المعرفة} لا اكثر، ذلك لأن هؤلاء لم يعرفوا في حياتهم كلها أن {يلبسوا عريانين}، فالذنب، إذاً، ذنبهم لا ذنب تلك الجمهوريات الصيفية المتخففة من أثقال الحشمة.

وعلى هذا... فيا سيدتي الجميلة {جميلة}، ويا سادتي الشرفاء والأحرار والعباقرة في هذا الوطن الكبير من فرط الكبائر... بدلاً من أن تجأروا بالشكوى من علل هذا الزمان، اسعوا إلى توسيع معارفكم بطب هذ الزمان. الأمر بسيط جداً، ليس عليكم إلا أن تخلعوا وتبوسوا الواوا. وعندئذ سترون من أول {بح} أن كل شيء {صح}. هيا إذاً، بوسوا الواوا!