لقد عرفت مصر الانتخابات التنافسية قبل نحو قرن من الزمان، ومنذ ذلك الحين تُباع أصوات بعض الناخبين وتُشترى، بسبب تشوه العملية السياسية، وتغول السلطة، وتفشي الفقر، وتراجع الوعي السياسي، وظلت إجراءات عملية شراء الصوت الانتخابي تتبدل وفق طبيعة المشتري والبائع والمرحلة السياسية ودرجة التطور الاجتماعي والاقتصادي في البلاد؛ فمرة يتم التعاقد على شراء الصوت عبر القسم الشفاهي، ومرة أخرى يشترط المُشتري قسماً مُغلظاً على "كتاب الله"، وفي أحيان عديدة يتم الاكتفاء بالتعهد اللفظي، أو بقطع الورقة المالية إلى نصفين، والدفع بنصفها قبل التصويت إلى البائع، وإعطائه النصف الآخر عقب انتهاء العملية.

Ad

لكن انتخابات 2005 في مصر، شهدت تجربة جديدة في مجال تسهيل إجراءات بيع الأصوات وتوثيقها، لقد كانت تجربة معتمدة كلياً على تجليات التكنولوجيا؛ إذ يعطي وكيل المشتري نصف المبلغ المالي المتفق عليه للبائع المفترض، ثم يطلب إليه تصوير بطاقة التصويت، عقب تسويد خانة المرشح الراغب في شراء الصوت، بواسطة كاميرا الهاتف المحمول، وإبراز الصورة لدى وكيل المشتري، الذي يدفع بنصف الثمن المتبقي إلى البائع، بعد تأكده من سلامة عملية التصويت.

استخدام التكنولوجيا في ضرب فكرة الديمقراطية ليس إبداعاً مصرياً خالصاً؛ فرغم أن مبدأ سرية التصويت مسألة في غاية الحيوية لأي عملية انتخابية، فإن الظروف أتاحت ليّ فرصة مشاهدة ابتكار يمني مدهش لضرب هذا المبدأ، وتحويل العملية الانتخابية إلى أداة لتكريس القبلية وتشويه الممارسة السياسية.

في الانتخابات الرئاسية اليمنية، التي جرت في عام 2006، وشهدت نوعاً من المنافسة بين الرئيس الحالي علي عبدالله صالح ومرشح تحالف أحزاب المعارضة فيصل بن شملان، أمكنني رؤية بعض الناشطين في عدد من المناطق يصورون بكاميرات هواتفهم المحمولة وجوه المصوتين، في عملية بدت لي أقرب إلى محاولة توثيق المشاركة أكثر من تسجيلها. وحينما سألت عدداً من العارفين ببواطن الأمور، أكدوا لي أن هؤلاء الناشطين يوثقون توجه أفراد القبائل إلى مراكز التصويت، لكي يقدموا تقارير وافيةً لشيوخ القبائل، توضح مدى التزام الأفراد تحت رئاستهم العرفية بالقرار القبلي، الذي يُتخذ غالباً وفقاً لاتفاق يعقد مع السلطة أو ضدها.

وبالطبع، فإن عدم مشاركة الأفراد في التصويت، يعني خصماً من القدرة التصويتية للقبيلة، وبالتالي إضعافاً لمواقفها التفاوضية، ومن ثم يمكن توقع مساءلة الأفراد الغائبين عن الحشد، والذين سيمكن تأكيد حضورهم أو تغيبهم عبر تكنولوجيا كاميرات تصوير الهواتف المحمولة.

ورغم الطرافة والإبداع اللذين تنطوي عليهما التجربتان المصرية واليمنية في مجال "تكنولوجيا الانتخابات"، فإن الكويتيين استطاعوا تحقيق الاختراق الأهم في مجال تجيير تجليات التكنولوجيا لمصلحة ممارسات تقليدية ضد العملية الديمقراطية. ففي مرحلة الاستعداد لخوض الانتخابات البرلمانية التي جرت في 17 مايو 2008، أصر البعض على إجراء "الانتخابات الفرعية"، وهي انتخابات محظورة قانوناً، لكن بعض القبائل تجريها لاختيار مرشحيها في الانتخابات العامة، بما يضمن عدم تفتيت الأصوات، وحشد الدعم اللازم وراء المرشحين المختارين لضمان فوزهم.

ولما كانت السلطات قررت محاربة تلك الانتخابات المحظورة وملاحقتها قانونياً، فلم يكن هناك حل أمام القبائل الراغبة في إجرائها سوى استخدام تجليات التكنولوجيا؛ مثل الهواتف النقالة، والرسائل الهاتفية القصيرة، في الحشد والإخبار، والرسائل التوجيهية والتنظيمية من خلال القوائم المعدة سلفاً على البريد الإلكتروني، وتلقي أصوات الغائبين والمسافرين إلى الخارج عبر الإنترنت، وأخيراً استخدام برامج الحاسب الآلي في حساب الأصوات لإعلان النتائج.

على مدى يومي 14 و15 يوليو الجاري، كنت في بروكسل مشاركاً في مؤتمر عالمي، عُقد تحت عنوان "التكنولوجيا من أجل دعم العمليات الانتخابية"، وهو المؤتمر الذي نظمه "المركز الدولي للدراسات البرلمانية"، بحضور أكثر من 50 سياسياً ومسؤولاً تنفيذياً وخبيراً وأكاديمياًً من نحو 30 دولة من دول العالم، من أستراليا شرقاً إلى الولايات المتحدة غرباً، ومن الدنمارك شمالاً إلى نيجيريا جنوباً.

كان من المحتم أن ألقي كلمة خلال فعاليات هذا المؤتمر، خصوصاً أنني كنت أحد ممثلين اثنين فقط عن المنطقة العربية، وقد كان من الصعب حقاً الإشارة إلى تطورات مهمة في مجال استخدام التكنولوجيا لدعم وتسهيل العمليات الانتخابية في البلاد العربية، التي مازال معظمها غير قادر حتى على أن يحسن استخدام النظام اليدوي في إدارة الانتخابات.

المقارنة لم تكن بالطبع في مصلحة العالم العربي؛ فقياساً بالتجربة الهندية، مازال أمامنا الكثير لنتعلمه، بعدما تم استخدام التكنولوجيا في كل مراحل العملية الانتخابية في هذا البلد النامي المتسع والمكتظ بالسكان. وفيما كان ممثل الفلبين، وأحد أعضاء اللجنة العليا للانتخابات في مانيلا، يعرض تجربة بلاده في الانتقال بالكامل من الانتخابات اليدوية إلى النظام الانتخابي الآلي في الانتخابات العامة الأخيرة، كان أحد أساتذة العلوم السياسية في جامعة نيويورك يقدم عرضاً متكاملاً عن الأخطاء والتجاوزات التي شهدتها الانتخابات الرئاسية الأميركية منذ مطلع العقد الراهن، بسبب مشكلات استخدام التكنولوجيا، ويعرض أيضاً الحلول المقترحة لمواجهة هذه المشكلات.

لكن الأخبار الجيدة الآتية من العالم العربي، كما أشرت في كلمتي، تتمثل في أن التكنولوجيا منحت العملية السياسية زخماً حقيقياً، وظهرت فوائدها في عمليات تبادل المعلومات، وبلورة الرأي العام، والحشد والتعبئة، بل تنظيم المظاهرات والإضرابات، وأخيراً تقديم بدائل افتراضية للمعارضات المكبوتة في أكثر من دولة من دول المنطقة، ووضع المزيد من القيود على ممارسات السلطة الخشنة، عبر كشفها في المجال العام، وتوثيقها بالصوت والصورة.

أما ما يدعو إلى الأسف حقاً، فهو استخدام التكنولوجيا عربياً ضد الديمقراطية وضد نزاهة العمليات الانتخابية؛ سواء عبر استغلالها في إجراء انتخابات فرعية محظورة كما في الكويت، أو توثيق الانصياع السياسي للقرارات القبلية والجهوية والطائفية كما في اليمن، أو تسهيل عمليات تزييف الإرادة واستلاب الوعي الشعبي عبر تيسير بيع الأصوات الانتخابية كما في مصر.

ستبقى التكنولوجيا بتجلياتها المختلفة قادرة على إلهام المواطنين العرب وتحفيزهم للمشاركة السياسية ومحاولة إحداث التغيير الاجتماعي، وستبقى أيضاً أداة يمكن أن تستخدمها السلطة أو البنى الرجعية ضد الديمقراطية والرشد السياسي والانتخابات النزيهة، وهو صراع سيستمر، وسيحسم بالتأكيد لمصلحة الحداثة.

* كاتب مصري