بعد أن فشلوا في التعامل معها بخيار الحرب واستخدام القوة لإحداث التغيير المطلوب وإذعانهم باستحالة المواجهة مع طهران وجهاً لوجه قرروا التسلل إلى القلعة من الداخل وبالأساليب الناعمة.

Ad

«تغيير الأفكار ثم تغيير السلوك ثم تغيير الهيكلية»، كانت هذه هي الخطة المعتمدة غربياً على مدى السنوات الأربع الماضية للتعامل مع نظام طهران استعداداً لتتويج نهاياتها بالحدث الإيراني الانتخابي الكبير، كما ورد في «الكراس» الذي وُجِد في أحد مقرات الثورة المخملية ليلة «السابع من آيار» الإيراني، والذي اعتمد خارجياً لإثارة الاضطرابات في أعقاب نتائج الانتخابات التي كانوا يعرفونها مسبقاً بأنها ليست لمصلحتهم، كما كانت تشير إليها كل استطلاعات الرأي الحقيقية لا المزوّرة التي أشاعوها قبل وأثناء وبعيد الانتخابات مباشرة لإغفال وإغراء أصدقائهم والتابعين.

وهكذا كان لابد إذن من «شيطنة» كل شيء في أحمدي نجاد من رأسه إلى أخمص قدميه طوال السنوات الأربع الماضية، استعداداً لليوم الموعود.

لكن هذا لا يعني بالضرورة أن كل ما حدث خلال الأسابيع الأربعة الماضية في إيران، إنما كان حصراً مشاهد لثورة مخملية فاشلة فحسب.

ففي هذه الأثناء كان ثمة شيء آخر عميق يتحرك في الداخل الإيراني على مستوى مختلف عمره نحو عقد من الزمان أو يزيد تم توظيفه في الخطة.

إنه الحراك الداخلي الحيوي الذي طالما امتاز به المجتمع الحضاري الإيراني التعددي النزعة والمبدع في اجتراح الحلول.

الحراك الداخلي هذا كان تعبيراً عن صراع بين إرادتين متقابلتين أو متواجهتين:

الأولى: كانت تسعى إلى إحداث مراجعة حقيقية في الفكر الخميني بما يفضي إلى التخلي التدريجي عن نظرية ولاية الفقيه التقليدية المعروفة واستبدالها بنظام «ولاية فقيه دستورية» في مرحلة لاحقة إذا ما لزم الأمر، فالتخلي عن ولاية الفقيه نفسها حفاظاً على بقاء الجمهورية الإسلامية نفسها كما كان أصحاب تلك المراجعة يهمسون في الأروقة الخلفية.

والثانية: كانت هي الأخرى أيضا جادة في إحداث مراجعة حقيقية، ولكن من نوع آخر للخمينية بما يفضي إلى بلورة «خمينية جديدة»، يتم من خلالها تحصين «الخمينية التقليدية»، إذا جاز التعبير بمنظومة «خمينية جديدة» تقوم على تطعيم أفكار الزعيم الراحل والمؤسس آية الله الخميني بأفكار المرشد الحالي آية الله علي خامنئي، بحيث يمكن من خلال ذلك الدفاع عن أصل نظام ولاية الفقيه بصورة أكثر مواءمة لحراك جيلي الثورة الثالث والرابع الذي كان ولايزال يتهدده خطران الخارج المعادي لأصل النظام وبعض الداخل المتراخي في الدفاع عن أصل الثورة.

وقد تمثلت الإرادة الأولى من خلال مجموع ما عُرِف اصطلاحا حتى الآن بالقوى الإصلاحية، بينما تمثلت الإرادة الثانية من خلال ما عُرِف اصطلاحا حتى الآن بالقوى المحافظة أو الأصولية.

الانتخابات الإيرانية التاسعة، التي أفرزت الرئيس الحالي أحمدي نجاد لأول مرة من قمقم الجيل الثاني للثورة كانت بداية المواجهة العلنية بين تلك الإرادتين.

ذلك أن العقود الثلاثة الماضية التي مرت على الثورة الإيرانية ونظام حكمها كان قد مرت عليها ثلاث مراحل أساسية قبل خروج المارد الجديد من القمقم.

- المرحلة الأولى، وهي مرحلة حكم «الخمينية» المباشر الذي يمكن تكثيفه سوسيولوجياً بشعار «الإسلام أولاً».

- المرحلة الثانية، وهي مرحلة حكم ما بعد الخميني حيث نهاية حرب السنوات الثماني العراقية ضد إيران وزعامة الرئيس الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني، التي يمكن تكثيفها أيضا بشعار «إيران أولاً»، إذ كانت الأولوية لبناء إيران.

- المرحلة الثالثة، وهي مرحلة انتعاش الحراك السياسي- الثقافي، وهي المرحلة التي أُطلق عليها بمرحلة حكومة الإصلاحيين بزعامة الرئيس السابق محمد خاتمي، التي يمكن تكثيفها أيضا بشعار «التنمية السياسية أولاً».

مع إطلالة أحمدي نجاد كان الإمام المجدد للخمينية، كما يُفترض، قد وصل إلى قناعة مفادها، أن ظروف المرحلة تقضي بضرورة العمل باتجاهين:

- الاتجاه الأول: يقضي بضرورة إطلاق حراك اجتماعي واسع يلامس مقولة «الثورة» يهدف في ما يهدف إلى تجاوز الأطر التقليدية التي أفرزتها الخمينية التقليدية من محافظين وإصلاحيين، والتي لم يتعرف عليها الجيلان الثالث والرابع بشكل دقيق، فكان لابد من الاستعانة بالجيل الثاني للثورة، وهنا تبرز أهمية ظاهرة أحمدي نجاد الخارجة على المألوف لدى الرعيل الأول للثورة.

- الاتجاه الثاني: ويقضي بضرورة ممارسة الحكم مباشرة من جانب المرشد الأعلى للنظام أي أن يظهر على الملأ بوضوح سواء نحو الداخل أو نحو الخارج، بأن أساس الحكم إنما هو حكم آية الله السيد علي خامنئي نفسه.

وهذا الأمر كان يعني عملياً عودة مجددة لحكم الخمينية، أي حكم ولاية الفقيه، كما كانت أيام حكم الخميني المباشر أي «الإسلام أولاً» مرة أخرى.

ومن ثم، فإن من جملة مفاعيل هذه المرحلة هي إغضاب كل رموز الحرس القديم ممن كان يفكر جدياً بضرورة إجراء مراجعة جدية لأفكار الخمينية الأولى، لاسيما أولئك المعتقدين بحلية التخلي عن نظرية ولاية الفقيه، إذا ما دار الأمر بينها وبين تعرض أصل الجمهورية الإسلامية الذي باتت نظرية ولاية الفقيه تعرِّضه للخطر، كما كانوا يروِّجون.

لكن هذا نفسه كان يعني أيضا في ما يعني الخروج على كل ما كان متعارفاً عليه أيام حكم تداول السلطات بين رموز الحرس القديم فقط، أو ما كان يعرف باليمين الديني واليسار الديني الذي تحول في مرحلة لاحقة إلى ما عُرِف بالمحافظين والإصلاحيين، فإذا بهم أمام جنس آخر من الحكام يعتبرونه هم خارجا على المألوف، بينما يعتبر هو نفسه من جنس الناس.

مهما يكن الأمر، فإن العودة إلى شعار «الإسلام أولاً»، والترويج لخمينية جديدة والاستعانة بأحد رجالات الجيل الثاني للثورة، لاسيما من نوع أحمدي نجاد، لتظهير هذا المشروع كان بمنزلة الكرة الملتهبة التي ألقيت في حضن الحرس القديم مجتمعاً كما يعتقد البعض.

ثمة مَن يقول اليوم، إن العودة الثانية لأحمدي نجاد لإدارة دورة حكومية ثانية ربما تشكل اليوم أشبه ما يكون بالعشاء الأخير للحرس القديم، إذا ما أصرّت رموز هذا الحرس القديم على مراجعتها الخاصة للخمينية بالطريقة المغامرة من جهة وتجاهلها للتقاطع الخطير الحاصل بين حركتها الداخلية الساذجة هذه من أجل الإصلاح والتغيير وحركة الخارج المخملية من أجل التخريب والإطاحة بأصل النظام والثورة والجمهورية الإسلامية من جهة أخرى.

* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني