آخر وطن: الجمهور المؤمن
الجمهور المؤمن بمبدع ما على مستوى الفن والأدب، برأيي هو أكثر إيماناً من أولئك الذين آمنوا بالأنبياء والرسل!
بداية وقبل كل شيء، أوضح أن المقارنة ليست حول موضوع الإيمان، إنما الإيمان نفسه، وليست بين الأنبياء وغيرهم من البشر، فالأنبياء لهم من القدسية ما يسمو بهم عن أي مقارنة. إن الذين يقفون خلف أي مبدع، يساندونه ويشدون من أزره، يتحمسون لإبداعه، يدافعون عن نتاجه، ويتلقون نصيبهم من السهام التي توجه إلى ذلك المبدع، ويخوضون معارك كثيرة نيابة عنه، هم أكثر الشهداء جمالاً، وأصدق المؤمنين. إن الذين آمنوا بالأنبياء والرسل، كانوا في نهاية المطاف يرجون مغفرة ورحمة من الله، وجنة هم بها يوعدون، ناهيك عن السلطة الدينية التي ينالونها في الدنيا إن آل الأمر إلى نبيّهم الذي وقفوا من حوله وآمنوا برسالته. ولكن... ماذا سيحصل عليه جمهور المبدع حتى لو اعترف الناس جميعاً برسالة ذلك المبدع لاحقاً؟! هذا الجمهور آمن بالإبداع ذاته ولا شيء سواه، إيماناً خالصاً نقياً لا تشوبه ذرة من منفعة أو مصلحة شخصية، في الوقت الذي حارب ذلك الإبداع أغلبية الناس، رفع صوته عالياً دعماً لذلك الإبداع، ودفع الثمن نتيجة ذلك الصوت المرتفع. هذا الجمهور يعي أن ذلك المبدع لا يعرف ملامحهم، ولا أسماءهم، ولا هوياتهم الشخصية، ولا ألوان وجوههم، ومع ذلك يخوضون معه حربه، ويشرّعون صدورهم عارية لتلقي الجراح فداءً له، وعندما تسيل دماؤهم غزيرة على الرمل، هم على يقين بأن لا أحد سيتعرف عليها، ولن يجعل منها أحدٌ وضوءاً، ولن تُسطَّر أسماؤهم على مسلة الخلود، بل إنهم على يقين بأنهم سيصبحون نسيّاً منسيّاً، ورغم ذلك لن يتوانوا في الدفاع عمّا آمنوا به! كل أسماء الصحابة والحورانيين والتابعين وغيرهم ممّن وقفوا في صف الأنبياء والرسل في بدايات دعواتهم محفوظة ومحفورة بقلوب المؤمنين حتى يومنا هذا، بكثير من الإجلال والتكريم، بينما لا يذكر التاريخ اسماً واحداً ممّن آمنوا بموهبة امرؤ القيس أو المتنبي أو بيكاسو أو بيتهوفن من عامة الناس، علماً أن رسالة بيتهوفن أو بيكاسو مثلاً يعرفها في الوقت الحاضر عدد أكبر من ذلك العدد الذي يعرف عن رسالة نبيّنا صالح عليه السلام مثلاً! جمهور يعرف كل فرد منهم ويعي تماماً أن الريح لا محال قادمة، وستأخذ ما تبقى من رائحة ثيابه، بعد أن تلاشت ملامحه في كف التغييب والتجاهل، وذلك لا يوهن عزيمته ولا ينال من إصراره شيئاً في نصرة مبدعه، بل يحدث أحياناً أن يتعرض جمهور الإبداع للذل من قِبل المبدع الذي آمن به، كأن يتعالى المبدع عليه، أو يعامله بغرور بعد أن يستوي على الجودي! وذلك لا يزحزح من إيمان ذلك الجمهور شيئاً، بل على العكس يحدث أحياناً! لم أرَ قط معنى لنكران الذات أفضل من ذلك المتمثل في جمهور الإبداع، ولم أرَ مثلاً أصدق للإيمان من ذلك الإيمان الساكن في قلبه.