رائعة «ميجيل أنجل أستورياس» «الهاخاديتو» رامة الشحاذ، لها علاقة بمقالي السابق «مطلوب توضيح عاجل»، وقبل أن أشرح طبيعة هذه العلاقة سأكتب بداية عن هذا العمل الفذ الذي يمثل لي إحدى المحطات الكبيرة في قراءتي التي تركت أثراً لا ينسى... حقيقية هذه الرواية المبهرة، الموغلة في غرابتها، الغاطسة في دهاليز الشعر والمتأرجحة على تفاسير المعنى المنفلت من الوضوح المجاني، تضلل القارئ، تختبره وتمتحن قدرات تفكيره وفهمه الإبداعية، ومقدرته على كشف المتخفي في ظلال المعاني، الملتبس على الإدراك السطحي وعلى الفهم الفقير.

Ad

عظمة أستورياس تجلت في قصة بسيطة لصبي جاء ثمرة لعلاقة غير شرعية لواحدة من الأختين اللتين أخفتا عن والدهما من الأم الحقيقية لهذا الطفل، خوفا من جبروت بطشه.

أستورياس نقلنا إلى عالم «يتخضخض» ما بين رقة وأسطورية الأحلام وهلاميتها في مرآة الطفولة السحرية... لا شيء تتلمس حقيقته، مجرد مرايا لأوهام طفل يفسرها بمنطق تهويم مبالغات جنوح الطفولة لأسطرة كل ما يراه ولا يجد من يشرح له حقيقته، أو من يفتح له مغاليق الفهم.

هذا التأرجح ما بين الغامض في وهمه، وما بين الواضح في معناه، هو لعبة أستورياس وشطارته في بناء هذه الرواية الشعرية الرائعة، التي هي بالفعل قمة في شعرية الرواية، وأيضا هي الامتحان الحقيقي لقدرة القراء في الفهم والتذوق للمستويات النخبوية للكتابة الإبداعية، ولقدرتهم في تفصيص عمل روائي مشغول بمقدرة وأستذة رهيبة في كتابته... من يريد أن يقرأ عن الواقعية السحرية سيجدها بكل جدارة في هذه الرواية، وليس كل من كتب أي كلام أُطلق على كتابته الواقعية السحرية، هنا رواية واقعية تحولت إلى مشاهد بخفة القطن، وهشاشة السحب، وانسلال قوس قزح، كل جملة لكل صورة من الطبيعة تحولت إلى رؤية مختلفة عن واقعها، أكثر ثراءً وإبهاراً ونعومةً.

أما المفاجأة، فكانت في تطابق حكاية من حكاياته مأخوذة بكاملها من حكاية «الفتاة الخلد» التي هي من تراث حكايات «الزن» التي تسبق حكاية أستورياس بقرون من الزمن، وعمل أستورياس على استبدال الخلد وزوجته وابنته بشحرور أزرق وزوجته وابنته وبذات الأحداث التي تجري لهم... لكن هنا القارئ للعملين لا يملك إلا انبهاره وتصفيقه لهما، فالزن يذهب إلى جوهر الحكاية بتجريد رهيب ليصل إلى الحكمة منها من دون أن يهتم بالتزويق.

أما أستورياس فعمل على توسيع المشهد المضغوط في كبسولة ليتفجر بألوان بانورامية مذهلة وبلغة تسيل من بريق النجوم، وأيضا جاء بمعنى مختلف، لأن الخلد في حكاية الزن يعيش في الجحور، ما يدل على وضاعة الحال، والشحرور يطير في السماء، ما يحمل المعنى إلى دلالة طموح أكثر ارتفاعا وارتقاء، وطمع حتى يكون للاحتراق ريشه جوهر جديد.

رائع هذا التطابق، لأنه ولد إبداعا جديدا وأضاف رؤية سينمائية، وسعت المشاهد وجاءت بلغة ولدت صورا تستولي على الحواس كلها بجرة قلم.

لا يملك القارئ إلّا أن يقول يا الله على هذا الإبداع المذهل، وعلى هذه القدرة في توسيع الرؤية وتعدد التوليد، فالفن ما هو إلا هذه القدرة على الخلق وإعادة الخلق وتعدده.

المهم أن يكون هناك إبداع وخلق حقيقي، حتى إن كان هناك تطابق في الأفكار الرئيسية أو في المعنى.