وعد جورج بوش الابن، خلال حملة ترشّحه للرئاسة الأميركية، بمواصلة سياسة خارجية "متواضعة"، لكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي بدت بالنسبة إلى بوش شبيهة بتجربة ارتداد المرء عن دينه، ضربت بسياسة التواضع عرض الحائط، فقد وجد الرئيس الثالث والأربعون للولايات المتحدة دافعه الحقيقي في هذه الحياة. فالسماء كانت تدعوه إلى تطهير عالم الشر.
لم تثمر جهود بوش اللاحقة نتائج قيّمة خلال تنفيذه مهمّته، إذ أصبح التهور فضلاً عن انعدام الخبرة والكفاءة علامة بارزة في إدارته، لكن ما من شك في أن بوش ظلّ مقتنعاً بأن نواياه طاهرة وقضية أمّته مستقيمة، إلى أن غادر منصبه، لقد آمن بوجه خاص وبعمق في حرب العراق. انتهت "أجندة الحرية" التي وضعها بوش بفشل ذريع، إذ لم تكتسح أي موجة تحرير العالم الإسلامي، كذلك لم يُعثر على أسلحة دمار شامل في العراق كما وعد أو على الدليل عن وجود رابط بين صدّام حسين وتنظيم القاعدة. وقد أدّى تطبيق مبدأ بوش الشائن المتمثل في الحرب الوقائية في العراق إلى اندلاع حركة تمرّد تسببت بهرب ملايين الناس إلى مخيّمات مهملة للاجئين، وكنتيجة مباشرة لذلك، قُتل آلاف الجنود الأميركيين بينما بات آلاف آخرون عاجزين أو مشوّهين بندبات عميقة.بالرغم من كل ذلك وأكثر من ذلك، لم تثبط عزيمة بوش، فظل مصمماً، لأنه كان حسب اعتقاده على ثقة بأنه يؤدي عمل الله على الأرض، كان، ولم يزل اليوم بلا شك، مؤمناً حقيقياً، فكان الرئيس الثالث والأربعون للولايات المتحدة أحمق وحسن النوايا، فألحق أضراراً فادحة ببلاده، ومع ذلك حين سيقف أمام خالقه (أو في محكمة التاريخ)، ليقول من دون خوف من أن يعارضه أحد: "فعلت ما اعتبرته صواباً".في المقابل، لا يُعتبر باراك أوباما أحمق على الإطلاق، فحين يُستدعى للمحاسبة على ما قام به خلال ولايته الرئاسية، سيمنعه صدقه من القيام بادّعاء مماثل، وسيذكر: "لقد ورثت مشاكل صعبة الحل، فلم يكن أي من الخيارات التي قمت بها جيّداً، لأن الأوضاع كانت معقّدة".تشكّل الحرب في أفغانستان جزءاً من ذلك الإرث المعقّد، حيث يصعب اتّخاذ الخيارات الملائمة، فأصبحت أفغانستان حرب أوباما، بقدر ما كانت حرب العراق بالنسبة إلى بوش، لكن من الواضح أن الرئيس الحالي لا يرغب سوى في تخليص نفسه من الحرب التي التزم بها. يُشار إلى أن أوباما مدد وضاعف صراعاً لا يؤمن هو نفسه به على ما يبدو، فحين كشف بعد أشهر من المشاورات (أو التأخير) عن خطّته لزيادة عدد القوات في أفغانستان في ديسمبر 2009، أعلن مهمّتها وموعد انسحابها في الوقت عينه، فحتّى حين أمر أوباما بإرسال المزيد من القوات إلى القتال، أعلن عن انسحابها المخطط له "لأن الأمّة التي يهمّني بناؤها أكثر من أي أمة أخرى هي الولايات المتحدة". من جهتهم، يشاطر الأميركيون الذين انتخبوا أوباما رئيساً للبلاد وجهة النظر تلك، فتوقّعات التغيير التي قفزت به إلى سدّة الرئاسة تخطّت مسألة الأولويات بأشواط كبيرة، فقد كان مؤيدو أوباما يعتمدون عليه لإضفاء حس أخلاقي متنوّر على البيت الأبيض: كان يُفترض أن يكون حكمه مختلفاً ليس لأنه أذكى من سلفه فحسب، إنما لأنه استجاب لحدس داخلي مختلف وأكثر صدقاً، وعندئذ جاءت الأحداث لتقضي على هذه التوقّعات. حين ينظر الأميركيون اليوم إلى واشنطن، يرون رئيساً ماكراً وبارد المشاعر تفتقر إدارته إلى جوهر أخلاقي، فكأول دليل للحكم عليه، ليس علينا النظر إلى أبعد من المسار الملتوي لحرب أوباما، خسائرها، وتكاليفها المتصاعدة من دون هدف واضح.يرغب أوباما في الخروج من أفغانستان بقدر ما يرغب بنيامين نتنياهو في الخروج من الضفة الغربية، وعلى غرار رئيس الوزراء الإسرائيلي، لا يتحلّى الرئيس أوباما بالجرأة للانسحاب. الأمر في غاية التعقيد، فهناك مخاطر وقد تتّخذ الأمور منحىً خاطئاً، كذلك لابد من أخذ الانتخابات المقبلة في الحسبان.وهكذا ستستمر الحرب، وسيصبح من الأسهل أو الأكثر ملاءمةً مواصلة نسخة محدّثة ببراعة عن الوضع الراهن... هذا ما يقوم به مبشّر منتظر يعد بالخلاص والخضوع مجدداً لمسلتزمات السياسة، تاركاً الجنود الشبّان وعائلاتهم يتحمّلون العواقب.يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: من الذي يستحق الازدراء أكثر من الآخر؟ القائد الأعلى للقوات الأميركية الذي يضحّي بحياة الأميركيين الشبّان من أجل قضية يؤمن بها بصدق، بغض النظر عن عدم صوابيتها؟ أم القائد الأعلى للقوات الأميركية الذي يرسل الأميركيين إلى الهلاك من أجل قضية لا يؤمن بها على ما يبدو ولكن يرفض التخلي عنها؟Andrew Bacevich * أستاذ في التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة بوسطن.
مقالات
المؤمن وغير المؤمن
15-07-2010