الستينيون التعتيم الشعري
وردت خاطري مقارنتان بشأن الشعر، بين جيلي العراقي الستيني وجيل الرواد، وبين جيلي العراقي والآخر العربي.
بالنسبة إلى المقارنة الأولى فأمرها لديّ واضح. كان جيل الرواد يتمتع بفضائل تخصّ مرحلتهم، لم تكن ظاهرةُ «المهرجان» حاضرةً بعد، لتشكلَ المعيارَ الأساسي للشعر والشعراء. كان الكِتابُ هو المعيار. ودورُ النشر («الآداب»، «شعر»، وأنشطة النشر المحلية) تلاحق نتاج الشعراء بالرعاية والدعاية والنقد. لكَ أن تتصفحَ أعدادَ هاتين المجلتين في الخمسينيات، وما بعدها، لترى مقدارَ الحرص على الملاحقة هذه، حتى لتطمئنَ أن هناك شعراءٌ لمجلة «الآداب»، وشعراء لمجلة «شعر». وأن كلّ دار دائبةٌ على الإثارة، والاستثارة، في تنويعاتٍ غاية في الحماس، لمصلحة الأصوات الشعرية. أذكرُ أني كنت في الستينيات أنتظرُ إعدادَ هاتين المجلتين رأس كلّ شهر، بفارغ الصبر، لا لأقرأ موادهما حسب، بل لألاحق مفاجآت الإصدارات الشعرية: جديد السياب، البياتي، بلند، نازك، عبد الصبور، حجازي، أدونيس، يوسف الخال، خليل حاوي. ثم مفاجآت المتابعات النقدية، التي لا تتوقف. كلّ كتاب جديد ينطوي على نكهةٍ جديدة، مازالت تصحبُني حتى اليوم. ثم حلّتْ ظاهرةُ «المهرجان» الرسمي، وغير الرسمي، بعد أن هيمن المناخُ العام الذي ولّدته مرحلة الانقلابات السياسية الثورية. صار الناشرُ يلاحق «المهرجان»، ويتصيدُ النجومَ التي تلتمعُ داخله. يأخذ منها نتاجها، وينشره على عجلٍ مادام «جمهورُ المهرجان» ساخناً، لم يبرد بعد. وما حفلاتُ توقيع الكتاب إلا ملحقات تفعيل طاقة، داخل مناخ «المهرجان». حتى ظاهرة «معرض الكتاب» لم تولدْ وتتواصلْ إلا باعتبارها وجهاً آخر من وجوه «المهرجان». وداخل هذا السوق يتم تبادل المصالح الدنيئة. وأقول دنيئة، لأنها مدفوعةٌ بمصلحة الجاه والشهرة من قبل الشعراء، ومصلحة المال من جانب الناشرين. الكِتابُ مجرد وسيط رمزي، لا يقرأه أحد.أما المقارنة الثانية فأمرها أكثر وضوحاً لدي من الأولى. جيلنا الستيني العراقي جاء مع حلول كارثتين ثقافيتين، الأولى سطوةُ ظاهرةِ «المهرجان». والثانيةُ سطوة حزب البعث، وصدام حسين. ولكن السنوات المبكرة لهذه المرحلة، والتي تمتّعتْ بفورةِ حماسٍ ذاتِ نقاهة، كانت في جملتها لصالحنا. كنا أسماءً أعلاماً في الحركة الشعرية العربية. حين هاجرتُ إلى بيروت في 1969، وكنت في الثالثة والعشرين، كان الوسط الشعري على معرفة تامة بي. مع أني لم أصدر حينها غير مجموعتي الأولى «حيث تبدأ الأشياء». ولكني كنت ناشطاً في مجلة «الآداب»، و»شعر». كنت في القاهرة كذلك. كان كلّ شعراء جيلي يتمتعون بهذه السمعة، التي وضعتهم عن يقين في طليعة شعراء الموجة الجديدة. ما من صوت شاعر عربي مجايل لنا تجاوز صوت شاعر مثل سركون بولص، فاضل العزاوي، حسب الشيخ جعفر، ياسين طه حافظ، سامي مهدي، شريف الربيعي، عمران القيسي، جليل حيدر...حين بدأ البعثُ مشروعه الثقافي القومي، وشرع في ظاهرة «المهرجان» لتسويق ذلك، اعتمد الشعراء العرب جملةً، وخصوصا الستينيين، فهم وحدهم مادة انتفاعه السياسي للهيمنة في العالم العربي، ومادة دعواه الوحدوية القومية. وأهمل الشعراء العراقيين «القطريين!»، الذين هاجروا في ما بعد إلى بيروت، ثم إلى منافي العالم. أهملهم لأنهم ينتسبون، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، إلى اليسار الماركسي. أو إلى المعارضة، بمعنى آخر. ثم مع الأيام، وخاصة بعد صعود صدام حسين إلى سدة الحكم، بدأت حملة التعتيم الإعلامي المريعة ضد أسمائنا. وكان شعراء البعث، وقد عوّل عليهم النظام كممثلين منفردين للشعر العراقي، رسلَ التعتيم إلى العالم العربي: في الإغواء المالي (صرف رواتب مجانية)، والتحذير المبطّن لأنشطة الكتّاب العرب، ومهرجاناتهم. ومنذ منتصف السبعينيات صارت أسماؤنا ممنوعة، وشبه محرمة في العراق، وفي العالم العربي. ثم أصبح هذا المنع والتحريم عُرفاً، وتقليداً حتى اليوم.