سُئل الرئيس مبارك يوماً عما إذا كان سيورث الحكم لنجله جمال، فرد رداً ضمنياً بالنفي؛ إذ قال: "مصر ليست كسورية"، وهو الرد الذي أثار استياء دمشق، وخلق كثيراً من الجدل، ولم يتسق مع ما رصده كثيرون من صعود متواصل لنجم الابن، الذي زادت أدواره، وتعمق تأثيره، منذ أن بدأ رحلته السياسية في عام 2003.

Ad

لقد كان مبارك محقاً في إجابته، على الأرجح، فهو لم يكن قد حسم أمره على توريث الحكم لنجله، كما أن الحالة المصرية ليست شبيهة بتلك السورية؛ إذ لا يبدو أن الرئيس يفكر في التخلي عن الحكم لنجله في حياته، كما لا يظهر أنه عازم كل العزم على أن ينتقل الأمر إليه بعد غيابه، لكن فرص جمال في الوصول إلى سدة المنصب الرئاسي، مع كل ذلك، مازالت قائمة.

كيف يمكن تفسير تلك المعادلة الملغزة إذن؟

يمكن تفسيرها عندما نعيد صياغة ما قد يحدث في مصر لاحقاً؛ إذ يبدو أن الأمر سيكون "محاولة لوراثة الرئاسة"، وليس توريثاً لها.

من يزر القاهرة اليوم ويمش في شوارعها العتيقة فسيجد الكثير من اللافتات السياسية؛ بعضها يتعلق بالدعاية للمرشحين المحتملين للانتخابات البرلمانية المنتظرة بعد شهور قليلة، وبعضها الآخر يروج لجمال مبارك كمرشح رئاسي محتمل، في انتخابات نوفمبر من العام المقبل، على شكل "بوسترات"، تحمل صورة نجل الرئيس، وتتصدرها عبارة "جمال... مصر".

من علق تلك البوسترات؟ ومن يروج علناً لجمال مبارك كمرشح رئاسي، عن الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم قطعاً، بينما يواصل الرئيس الأب مهامه بهمة ونشاط لافتين، حريصاً على أداء أدواره، وإعلان أنه "عازم أكثر من أي وقت مضى" على تحقيق وعوده لشعبه، وعلى الاستمرار في أداء مهامه "حتى آخر نفس" في صدره، مادام فيه "قلب ينبض".

لا أحد في الحزب الحاكم يتبنى علناً ترشيح جمال للمنصب الرئاسي في الانتخابات "التنافسية" المقبلة، لكن كثيرين يعلنون أنه مرشح محتمل ومتفق عليه "إذا لم يرشح الرئيس الأب نفسه لأي سبب". ولذلك، فقد جرى تشكيل "ائتلاف شعبي" لدعم حظوظ جمال في الترشح، وهو ائتلاف قيل إنه "يضم الآلاف، ويُموَّل من جيوب البسطاء من مؤيدي مبارك الابن وأحبائه"، كما أُطلقت حملة لجمع توقيعات على "الإنترنت" لمؤيدي جمال، تدعوه إلى الترشح للرئاسة، وتهاجم منتقديه وخصومه، وهي حملة جمعت "آلاف التوقيعات"، من دون أن يتبناها جمال أو أي من أعوانه أو أي من منتسبي الحزب الحاكم.

في الأسبوع الماضي، زار جمال مبارك معسكراً تثقيفياً صيفياً لشباب الجامعات المصرية، حيث أجرى لقاءً مع بعضهم، استمر ساعات؛ وهو اللقاء الذي نقلته التلفزة الوطنية، وأعادت بثه مراراً، حيث ظهر نجل الرئيس بصفته "أمين لجنة السياسات في الحزب الحاكم"، وتحدث في محاور عديدة، بدأت بالأوضاع الاقتصادية الداخلية، وانتهت بالسياسة الخارجية، وأزمة مياه النيل، وعناصر الدور الإقليمي المصري، ورؤية البلد لهذا الدور ومستقبله.

بعض الصحف القومية (المملوكة لمجلس الشورى نيابة عن المجموع العام، والممولة من قبل دافعي الضرائب) أفرد مساحات كبيرة جداً لهذا اللقاء، ونقل كل تفصيلاته، بعناوين عريضة استغرقت جل الصفحات الأولى، وبعض الصفحات الداخلية، وهو الأمر الذي أثار استهجان المعارضين بالطبع، لكنه أيضاً أثار تساؤلات بين صفوف الموالاة، وهي تساؤلات مكتومة، تصدرها سؤال عريض: "لماذا تفرد تلك الصحف مساحات لنجل الرئيس أكثر من تلك التي تفردها عادة للرئيس الأب؟".

يعرف الكثير من المحللين والمراقبين والمتابعين عن كثب لأمور السياسة المصرية، أن فرص الرئيس مبارك في الفوز بانتخابات رئاسية تنافسة تجري في نوفمبر 2011 كبيرة جداً، حتى وإن جرت تلك الانتخابات دون تزوير كبير، وحتى إن علمنا أن الرئيس آنذاك سيكون في الثالثة والثمانين من عمره، وأنه من المفترض أن ينهي تلك الولاية المنتظرة في التاسعة والثمانين من العمر.

يثق هؤلاء أن حظوظ الرئيس كبيرة، رغم كل تلك العوائق؛ إذ مازال يتمتع بولاء كبير في صفوف القوى الصلبة والمؤسسات الراسخة، ومازال قادراً على إقناع قدر كبير من أوساط شعبه بقدرته على تأمين "الاستمرار والاستقرار"، ومفاداة "قادم قد يكون أسوأ".

لكن ما بات محل شك حقيقة هو حظوظ الرئيس في الترشح، في مواجهة رغبة نجله في أخذ مصيره بيده، قبل أن تنفلت الأمور منها.

يتسلح مبارك الابن بعدم ممانعة دولية لمجيئه، وبتوافق إقليمي، عربي وغير عربي، على أنه خيار أفضل، في حال غياب الوالد، وبنخبة رجال الأعمال الذين مُنحوا فرصاً استثنائية للازدهار بموازاة تكرس أدواره واتساعها في صنع السياسات، وبقطاع في الحزب الحاكم جمع بين المال والسياسة، ويريد أن "ينظر إلى المستقبل، ويجد سنداً فيه"، وبآلة إعلام ضخمة، ممولة من المال العام و"الخاص" تروج له وتحاصر منافسيه، وبعدد من الوزراء، الذي أتى بهم، ووطد لهم، وحمى وجودهم، وصد عنهم الهجمات.

لا يبدو أن أحداً يمكن أن ينافس مبارك الأب في انتخابات تتمتع بالحرية النسبية أو تفتقدها تماماً، حتى لو كان البرادعي أو أيمن نور أو جماعة "الإخوان المسلمين" المحظورة، فالدستور يتكفل بإقصاء البعض، والقوى الصلبة تتكفل بتحجيم آخرين، وموالاة المصريين وبعض طباعهم تتكفل بالباقي.

لكن ثمة مؤشرات إلى أن هناك من يسعى إلى منافسة الرئيس الأب على الترشح عن الحزب الحاكم؛ ولذلك فالحديث عن توريث السلطة في مصر لم يعد له مجال؛ إذ بات واضحاً أننا بصدد محاولة لوراثة السلطة، وهي محاولة محفوفة بالمخاطر الإنسانية والسياسية.

* كاتب مصري