صحيح أن بطولة كأس العالم التي انتهت قبل يومين سجلت فشل منتخب الدولة المنظمة في تجاوز الدور الأول، وهو الأمر الذي يحدث لأول مرة في تاريخ المونديال, إلا أن جنوب إفريقيا نجحت من خلال تنظيمها لهذه البطولة في تجاوز عقدة نيلسون مانديلا, حيث استطاع هذا البلد أن يعبر عن نفسه بقوة وأن يقدم نفسه للعالم أجمع كبلد فتي وطموح دون أن يضطر للاستنجاد بصورة مناضله العجوز.
ولأنني مثل ملايين الناس في هذا الكوكب الذين يحبون نيلسون (لله في الله), فإنني لا أستطيع نسيان الهواجس التي داهمتني حين وقفت قبل سنوات أمام تمثاله في متحف الشمع، وهو التمثال الذي كرهته بقدر ما أحببت مانديلا، يومها شعرت بأن الفارق الأساسي بين الإنسان والدمية هو الحرية، فالدمى لا تستطيع مغادرة المتحف ولا يستشيرها أحد في اختيار المكان الذي يجب أن تقف فيه، وهي بالطبع عاجزة عن تبادل الأحاديث مع الدمى الأخرى التي وضعت إلى جوارها.قد يكون هذا الأمر بالذات هو الذي دفع رسول حمزاتوف شاعر داغستان العظيم لأن يقول: «لا يمكن إنجاب أطفال من زواج الدمى»، فالدمى تعيش وضعا ميئوسا منه لأنها لا تتحرك إلا حين يقرر الآخرون تحريكها، بل إنها مهما تعاظم شأنها ونالت التقدير العلني فهي مضطرة رغما عن أنفها الشمعي للخضوع لبرنامج الصيانة الدورية، وفي بعض الأحيان تقرر الإدارة تخزينها في المستودع كي تفسح المكان لدمية جديدة تحل محلها.كان مانديلا «الدمية» يرسم على شفتيه نصف ابتسامة تروق كثيرا للسياح الكسالى الذين يتحركون ببطء شديد في المتحف البارد، كم شعرت بأنه قليل الحيلة، وأنه يتمنى لو تجمهر زوار المتحف حول دمية البابا السابق أو دمية ديفيد بيكام بدلا من أن يقوموا بالتقاط صور بلهاء لبعضهم بعضا، وهم يضعون أيديهم على كتفه، وهي حالة تتناقض تماما مع حالة مانديلا الحقيقي الرجل الذي تصبح أدنى حركة يقوم بها جزءا أساسيا من حركة التاريخ.في أحيان كثيرة يستخف الإنسان بقيمة حريته كشرط أساسي لوجوده الإنساني فيتنازل عنها بحثا عن أهداف أقل قيمة مثل المال أو المنصب الوظيفي أو المكانة الاجتماعية المرموقة، فيتسلل الشمع إلى روحه دون أن يشعر، وشيئا فشيئا تكتسب كل ملامحه أبعادا شمعية ثابتة لا يمكن تغييرها دون الرجوع إلى النحات المسؤول. هذه الملامح الشمعية مهما بدت شديدة الشبه بملامحه الأصلية إلا أنها عاجزة تماما عن إنتاج أي انفعال صغير، تماما كما هي حال مانديلا «الدمية» الذي لا يستطيع تحرير شفتيه من نصف الابتسامة المصطنعة ليقول لهؤلاء الكسالى الذين يتحلقون حوله: «اغربوا عن وجهي».أحيانا يشعر الإنسان بشيء من الضعف حين يلاحظ انتشار عشائر الدمى من حوله، ولكن ظهور الخيارات الشمعية في أوساط الأصدقاء والمقربين وزملاءالعمل لا يعني بالضرورة أنهم أصبحوا أفضل حالا منه، فحتى لو تم وضعهم في الأماكن الأكثر بروزا في المتحف البارد فإن عامل النظافة العجوز- الذي لا يهتم السياح بوجوده قدر اهتمامهم بالدمى- سوف يأتي في الوقت المحدد ليطفئ أنوار المتحف، ويجبر كل هذه الدمى على النوم وقوفا.ليس ثمة شخصية تمثل الإرادة الصلبة أكثر من نيسلون مانديلا، ولكن دميته كانت عاجزة عن التحرر من نصف ابتسامة... وليس ثمة شخصية أكثر هامشية في ذلك المتحف من عامل النظافة العجوز، ولكنه كان يبتسم ويحرك حواجبه في اللحظة التي يريد.* كاتب سعودي
مقالات
احذر أن تكون دمية!
13-07-2010