كما سجل التاريخ القريب حكاية هزيمة أسطورة «الجيش الذي لا يقهر» على يد رجل المفاجآت السيد حسن نصرالله، بدعم ومساندة الأسدين الإيراني والسوري، فإن التاريخ سيسجل في المستقبل المنظور، كما يبدو، كيف أن هذا السيد نفسه سيسدل الستار على أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ الحديث، عندما يفكك آخر كيان عنصري على الخارطة السياسية الدولية، إذا ما كررت أخطاءها السابقة، كما جاء في كلمة الرئيس أحمدي نجاد في دمشق.
لقد كانت القمة الثلاثية التي عقدت في دمشق بين الزعماء الثلاثة قمة التحدي للتحالف الاستراتيجي بين واشنطن وتل أبيب بامتياز، فلا أحد في تل أبيب فضلا عن واشنطن يعرف بالضبط ما دار في مداولات «عشاء السيد» في قصر الشعب السوري بين الزعماء الثلاثة، لكن القدر المتيقن مما يعرفه المتبحرون في القراءة بين السطور، هو أنهم ناقشوا بكل جدية وتفصيل سيناريو الرد على أي مقامرة قد تقدم عليها الدولة العبرية ضد أي من أعمدة المقاومة، بما يفضي إلى إنهاء فلسفة وجود كنعان الإنكليزية العبرانية الجديدة التي زرعها «الحجاج القديسون» من جماعة الواسب، أي الأنجلو ساكسون البروتستانت البيض، فوق أرض كنعان، وبذلك تكون نهاية القدر المتجلي ونزعة التوسع اللانهائي، وحق التضحية بالآخر الذي احتكرته قطعان المستوطنين الصهاينة لأنفسهم منذ نحو ستين عاما فوق أرضنا الفلسطينية الحبيبة. فالرئيس بشار الأسد لم يكتف برفض طلبات سيدة الدبلوماسية الأميركية الأولى، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قرر إلغاء التأشيرات بين بلاده والشقيقة إيران، ما يعني أنه زاد التصاقا بها، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما تهكم عليها واستخف بقراءتها «غير المنطفية للأمن والسلام في المنطقة»، مؤكدا دعمه للطموحات النووية الإيرانية، معتبرا التعاطي الغربي مع تلك الطموحات «نوعا من الاستعمار الجديد الذي لا يريد للدول المسلمة أن تتمكن من المعارف والتكنولوجيا المتقدمة» كما قال في المؤتمر الصحفي المشترك.ومما زاد التحدي السوري إيلاما للسيدة المذكورة وسيدها في البيت الأبيض، هو أن الرئيس السوري لم يكتف بزيادة منسوب عرى الصداقة مع شقيقه الإيراني، بل ذهب إلى أبعد من ذلك مساء عندما رتب في قصر الشعب السوري لقاء قمة ثلاثيا، جمع فيه على مائدة عشاء نووي بامتياز بالإضافة إلى أحمدي نجاد سيد المقاومة وفارسها الأول الذي هشم صورة جيش حليف الإدارة الأميركية الذي لا يقهر.ثمة من يقول إن الهدف من وراء ذلك العشاء التاريخي الذي جمع الزعماء الثلاثة، وما تلاه من مطالعة استراتيجية عميقة قام بتقديمها السيد حسن نصرالله لرفيقيه، لم يكن المقصود منها الصورة-المشهد فحسب، بل إنها الصورة–المضمون التي كتبت عمليا، وبالأحرف الأولى، تلك التطورات العظيمة التي أشار إليها الرئيس أحمدي نجاد، في مؤتمره الصحفي المشترك مع حليفه السوري بشار الأسد والتي تفيد كل الأنباء بأنها ماضية إلى التعاظم لامحالة.إنها الرسالة الأقوى التي توجهها سورية في تاريخها الدبلوماسي الحديث إلى المستعمر والأجنبي عندما يفكر سوءا بها، وهي في الوقت نفسه التعبير الأدق والأكثر شفافية عن وضع وموقع سورية الحالي في المعادلتين العربية والإقليمية.وهي كذلك الرسالة الأقوى التي يرسلها الثلاثة معا إلى تحالف واشنطن-تل أبيب الذي عاد ليفعل منتداه الاستراتيجي من جديد، بأنه من الآن فصاعدا لن نترككم تستهدفوننا فرادى، وإن أي اعتداء على أي واحد منا سيكون بمنزلة اعتداء على الجميع، وسنرد عليكم بصورة شاملة، وهو تماما ما كان قاله المعلم من قبل، وترسم ملامح خطته «قمة عشاء السيد النووية» في دمشق كما وصفها أحد المتابعين.وهي بالطبع التعبير الأكثر وضوحا عن التحول الذي أصاب حالة ما كان يوصف يوما بمحور «الشر»، والذي تحول اليوم إلى محور مقاومة الشعوب، وهي الصورة الحقيقية التي أرادت أن تمسح ما كان يرسم يوما بأصباغ السم المدسوس والفتن المتنقلة باسم «الهلال الشيعي»، وترسم مكانها ما أصبح هلالا شعبيا ويكتمل مع المقاومة الفلسطينية، وقوى المقاومة العراقية الشاملة، وغيرها من قوى الممانعة العربية ليصبح بدرا كاملا على حد تعبير أحمدي نجاد.ثمة طوق حديدي صلب إذن بات يطبق على حاملة الطائرات التي اسمها إسرائيل، كما أن ثمة خريطة بدأت تتراءى ملامحها، وربما رسم خطوطها الجغرافية الأولى الزعماء الثلاثة في ذلك العشاء التاريخي.إنها خريطة «شرق أوسط جديد» نعم، ولكن ليست تلك التي حلمت بها كونداليزا رايس، بل تلك التي ستصنعها سواعد المناضلين والمجاهدين المزروعين في أرض الرباط من كل الجهات المحيطة بفلسطين المحتلة، وهي الخريطة التي لن يكتب فيها اسم إسرائيل بعد اليوم بل اسم البلاد الأصلي ألا وهو فلسطين العربية الحرة والمستقلة.صدقوني إنه ليس حلما رأيته في المنام، بل معلومات وحقائق وأرقام ودروع بشرية وإمكانات ومعدات وتجهيزات وخطط وترتيبات باتت على أتم الجهوزية، ولا تنتظر سوى خطأ واحد ترتكبه آلة الحرب الإسرائيلية التي لن تستطيع البقاء طويلا في التنفس في حالة اللاسلم واللاحرب بسبب ذاتها العدوانية، كما تؤكد كل الوقائع اليومية، وعندها سترون كيف سينهزم من ينهزم وينهار من ينهار ويستقيل من يستقيل؟ وكيف أن المنتصرين سيكونون أكثر رحمة وشفقة مما يتوقع البعض فيمنحون «حق العودة» لمن يتبقى دون حيلة من جيش الرعاع ليعود إلى وطنه الأم الذي سيق منه إلى أرض الغير، وتعود الأرض إلى أصحابها الحقيقيين؟وهكذا ترسم معالم الأحداث العظيمة، وهكذا يكون السيد قد صدق وعده من جديد وغير معالم المنطقة كما وعد، بل إن فعله سيذهب إلى أبعد من ذلك، حيث ستتغير معالم المعادلة الدولية بكل تفاصيلها بلا شك.* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني
مقالات
العشاء النووي الدمشقي
01-03-2010