الفرار إلى الجودة
![بروجيكت سنديكيت](https://www.aljarida.com/uploads/authors/176_1682431716.jpg)
ولقد شهدنا كيفية عمل هذا المبدأ منذ أوائل خريف 2007، حيث كان الطلب المفرط المتنامي على الأصول المالية الآمنة السائلة ذات الجودة العالية مصحوباً بزيادة مفرطة متنامية في المعروض من السلع والخدمات التي هي في الواقع نتاج لجهد بشري متواصل. ولا دليل على ذلك أصدق من الفجوة الناشئة التي بلغت 10% بين الناتج الحالي للاقتصاد العالمي وبين ما كان لينتجه الاقتصاد العالمي لو ظل في حالة شبه التوازن الطبيعية الصحية نسبياً التي كان عليها من قبل.والآن تنبئنا الأسواق المالية العالمية بأن هذا الطلب المفرط على الأصول المالية الآمنة السائلة ذات الجودة العالية أصبح في الآونة الأخيرة أضخم من أي وقت مضى.إن التغير الذي طرأ على مشاعر المستثمرين كان إلى حدٍ ما سبباً في استحثاث الزيادة في الطلب المفرط على مثل هذه الأصول. وبوسعنا أن نفترض أن الغرائز الحيوانية لدى المستثمرين والشركات المالية أصبحت أشد إحباطاً كرد فعل نفسي إزاء الاعتقاد الحماسي الذي ساد قبل بضعة أعوام فقط في القوى السحرية التي تتمتع بها الهندسة المالية.بيد أن أغلب هذا التحول الأخير لم يكن راجعاً إلى زيادة في الطلب على الأصول المالية الآمنة السائلة ذات الجودة العالية، بل كان راجعاً إلى نقص في العرض: فقبل ستة أشهر، كانت السندات التي تصدرها حكومات جنوب أوروبا تُعَد من بين الأصول العالية الجودة في الاقتصاد العالمي، وكان بوسع المرء أن يحتفظ بها بكل أمان واطمئنان؛ والآن لم تعد كذلك.فقبل ستة أشهر فقط كانت الحجة لمصلحة هذه السندات تبدو شبه مُحكَمة. أجل، كانت ديون القطاع الخاص في جنوب أوروبا قائمة على المضاربة وغير آمنة نسبياً؛ ولكن جنوب أوروبا يشكل جزءاً من منطقة اليورو، وهذا يعني أن ديون حكومات منطقة اليورو كانت مدعومة من قِبَل البنك المركزي الأوروبي، الذي كان مدعوماً من قِبَل حكومتي فرنسا وألمانيا، اللتين كانتا مدعومتين بدورهما برغبة دافعي الضرائب الفرنسيين والألمان في تحمل تكاليف المشروع الطويل الأجل المتمثل في تعزيز التكامل الأوروبي. ومن الواضح أن الفرنسيين والألمان كانوا على غير استعداد لمجرد التفكير في أي احتمال للعودة إلى تلك الأيام حين كان كل طرف منهما على استعداد لقتال الطرف الآخر نتيجة لخلاف حول اللغة التي ينبغي لرئيس بلدية ستراسبورغ أن يتحدث بها. ولكن يبدو أن الأمور لم تعد على هذا القدر من اليقين الآن.فحين يكون الطلب مفرطاً على الأصول المالية الآمنة السائلة العالية الجودة فإن القاعدة التي يتعين على السياسة الاقتصادية أن تتبعها- إن كنا راغبين في تجنب المزيد من الكساد- كانت واضحة وراسخة منذ عام 1825. فإذا كانت السوق تريد أصولاً مالية أكثر أماناً وسيولة وأعلى جودة فما عليك إلا أن تعطيها ما تريد.وكما تفعل آليات التخطيط للموارد الاجتماعية، فإن السوق تنبئنا بالأشياء ذات القيمة وبالتالي تعطينا الإشارة لإنتاج المزيد من هذه الأشياء. والآن تشير الأسواق إلى أن سندات خزانة الولايات المتحدة تمثل قيمة أعظم كثيراً مما كانت عليه منذ شهر. لذا فإن الحكومات التي لم يهتز ائتمانها حتى الآن، والتي مازالت أصولها تشكل معياراً للجودة بالنسبة للاقتصاد العالمي، لابد أن تنتج المزيد من هذه السندات.إن الحكومات التي تتمتع بالجدارة الائتمانية في أنحاء العالم المختلفة قادرة على إنشاء أصول أكثر أماناً وسيولة وأعلى جودة من خلال عدد من القنوات. فبوسعها أن تزيد من إنفاقها أو تحصل ضرائب أقل ثم تقترض الفرق. وتستطيع الحكومات أيضاً أن تضمن ديون كيانات القطاع الخاص، فتعمل بهذا على تحويل الأصول الرديئة الخطرة إلى أصول ذهبية. وتستطيع البنوك المركزية لهذه البلدان أن تقترض وتستخدم الأموال لشراء بعض من فيض الأصول الخطرة في السوق.أي من هذه الخطوات إذن يتعين على الحكومات ذات الجدارة الائتمانية على مستوى العالم أن تتخذها في استجابة لتحركات أسعار الأصول التي شهدها شهر مايو؟ كل الخطوات، لأننا في واقع الأمر لا نستطيع أن نجزم بأي منها قد يكون الأكثر فعالية وكفاءة في أداء مهمة تصريف الطلب المفرط على الأصول العالية الجودة. ولكن ما حجم أو مدى إحكام هذه الخطوات؟ ما دام الفائض في المعروض على مستوى العالم من السلع والخدمات قائماً فهذا يعني أن الحكومات لا تفعل ما يكفي- ومادامت معدلات البطالة في ارتفاع ومعدلات التضخم في هبوط. والواقع أن الفجوة بين ما يتعين على الحكومات أن تفعله وما تقوم به بالفعل اتسعت بشكل ملموس في شهر مايو.إن الأمر لا يتطلب عالم صواريخ، وكل هذه المشاكل نعرف حلولها منذ قديم الأزل.* جايمس برادفورد ديلونغ | James Bradford DeLong، مساعد وزير الخزانة الأسبق في الولايات المتحدة، وأستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»