بفضل ثورة المعلومات، وتكنولوجيا الإنترنت، أصبح العالم، وأخباره، ومشاريعه، وآمال مستقبله بين يدي الكاتب، أو المعلّق، أو المراقب، ساعة بساعة، ودقيقة بدقيقة. وما على الكاتب، أو المعلق، أو المراقب، إلا حُسن اختيار موضوعه، ومعالجته معالجة مفيدة للقاريء، رغم أن القراء- كما الكتّاب- أصبحوا على قدر كبير من الوعي والإدراك، ويقرؤون مقالات الكتّاب- في معظم الأحيان- بفهم وتبصر، ويعلّقون عليها تعليقات مفيدة، ما عدا بعض المؤدلجين السياسيين والدينيين والطائفيين منهم. وإن كانت معظم التعليقات تنصبُّ على شخص الكاتب أكثر مما تنصب على موضوع المقال، وما جاء فيه من عناصر تستحق الحوار والجدل حولها. ولكن معظم القراء يشطّون كثيراً، ويخرجون عن نص المقال. ويذهبون إلى  نقد شخص الكاتب، وغالباً بالسلب. حيث إن الكاتب يمثل لهم السلطة "سلطة الكتابة" أو الحاكم السياسي الذي يصعب نقده سلبياً، وربما في بعض الأحيان الأب المتسلط الذي يصعب لومه، أو نقده سلباً. فيجدون في الكاتب العزاء أو "الحائط الواطي"، الذي يفرغون فيه المسكوت عنه.

Ad

أربعة مواضيع عن العراق

في الأسبوع الماضي، كانت جعبة الأخبار مليئة بالجديد. وكان أمامي أربعة مواضيع تستحق الكتابة عنها، وهي:

1- ارتفاع نسبة الفساد المالي والإداري في العراق حالياً كما أعلنت "هيئة النزاهة" العراقية، حيث كشفت الهيئة عن ارتفاع في نسبة الفساد المالي والإداري في عموم العراق، رغم انخفاض أعمال العنف، مطالبةً بضرورة وضع سياسة فعالة لمكافحة الفساد على مدى السنوات الخمس المقبلة.

 فهل تنجح هذه "الهيئة" في لجم الفساد المالي والإداري، الذي يتفاقم في العراق، ومن العراقيين أنفسهم، وكأن المواطنة الصادقة والهوية الوطنية العراقية مفتقَدة لدى معظم العراقيين الرسميين؟

2- الموضوع الثاني، كان عن نية سورية بناء المزيد من السدود على نهر دجلة وكأن سورية تقول للعراق: موتوا عطشاً بعد موتكم بالمتفجرات. فقد أُثيرت في الآونة الأخيرة المخاوف من نشوب حرب مائية بين دول الشرق الأوسط. واعتبر الكثيرون أن الحروب القادمة ستكون حروبا مائية. ولا يمكن أيضاً أن ننكر مدى تأثير المياه على العلاقات بين الدول. فالمياه قادرة على إحياء سلام، أو نشوب حروب وصراعات بين الدول. وبحسب تقديرات الباحثين في جامعة أوريغون الأميركية، فإن 37 صراعاً عسكرياً اندلعت حول الماء على مستوى العالم منذ عام 1950 ، منها 32 صراعاً في الشرق الأوسط، اندلع 30 منها بين إسرائيل والعرب.

3- الموضوع الثالث، الذي كنت أود الكتابة فيه، كان بعنوان العراق: "دكتاتورية ملالية بقفازات ديمقراطية". فقد تكشَّف لنا أن رئيس وزراء العراق الحالي، قد حوّل العراق، من جمهورية تسعى إلى الديمقراطية، إلى ملكية مطلقة تستمد شرعيتها من الحق الإلهي، ومباركة آيات الله في العراق وإيران. ولعل تصريحين اثنين فقط، للمالكي يدلان دلالة واضحة عما في نفسه، وماذا يريد. وأن إيران وحلفاءها في العراق، قد أقنعوا المالكي بعدم ترك الحكم. وأن ما جرى من انتخابات تشريعية في مارس الماضي، ما هو إلا إرضاءً لأميركا والغرب، وتصوير العراق صورياً، بأنه البلد الساعي إلى الديمقراطية. أما هذان التصريحان الخطيران اللذان يدلان على ما في نيّة المالكي أن يفعل فهما: "وبعد ما ننطيها" وقال المالكي ذلك في تجمع عشائري. وكان يعني أنه لن يسلِّم السلطة لغيره، بعد ما استلمها. وهذه هي تماماً ثقافة الحزب الواحد، والرجل الواحد، وثقافة أي ديكتاتور يؤمن بأن التداول السلمي للسلطة هو مجرد "هبل سياسي". والتصريح الثاني يقول: "إن رئاسة الوزراء لن تخرج عن ائتلاف دولة القانون والوطني العراقي. وأنا بتليفون واحد أقول نعم واحسم المنصب. إنما القضية هي حرص مني لإشراك الآخرين في العملية السياسية." وهذا القول لا يحتاج إلى تعليق حتى لا نُتهم بالتحيز إلى طرف عراقي ضد الآخر. والقارىء لهذا التصريح الخطير يفهم مراميه ومعانيه. ولكن يجب أن نعلم جيداً أن تعيين رئيس الوزراء العراقي حالياً، هو قرار إيراني بامتياز، كما أن تعيين رئيس الوزراء اللبناني هو قرار سوري بامتياز منذ عام 1980 الى يومنا هذا. ويبدو أن إيران قد أعطت "كلمة السر" لنوري المالكي، وأضاءت له الضوء الأخضر لكي يدخل مكتب الرئاسة للمرة الثانية، وربما للثالثة والرابعة مستقبلاً. والشعب العراقي يلوك مرارة الانتخابات التشريعية. واعتقد أنه يعضُّ أصابعه ندماً على مشاركته في الاقتراع. ولكن لا بأس فالشعب العراقي هو الديمقراطي الحقيقي. أما زعماؤه فهم بقفازات ديمقراطية، لأغراض التمثيل.

4- أما الموضوع الرابع الذي وددت الكتابة فيه، فهو عن فشل تحقيق الحلم الأميركي في إرساء دعائم الديمقراطية العراقية، رغم ما صرح به أخيراً جيفري فيلتمان مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، بأن الديمقراطية في العراق تسير سيراً حسناً، وتفاؤله بأن هناك حكومة عراقية قريباً، تمثل الشعب العراقي. وهذه كلها تطمينات وتخديرات للشعب العراقي، والشعب الأميركي على السواء. فالواقع المرير، الذي تمَّ اكتشافه أخيراً في العراق، هو أن الشعب العراقي توَّاقٌ إلى الديمقراطية، ويريد تحقيقها اليوم قبل الغد. ولكن المشكلة الحقيقية في العراق، والتي لم تدركها الإدارة الأميركية الجمهورية السابقة، والإدارة الأميركية الديمقراطية الحالية، هي أن العراق- كما في سائر الدول العربية- يُفتقد إلى النخب السياسية المؤهَّلة للحكم، والمنبثقة عن أحزاب وطنية غير دينية. فلا نخب سياسية قادرة على الحكم الديمقراطي في العراق، وفي سائر أقطار العالم العربي. ومازالت معظم الأحزاب السياسية العربية- ومنها العراقية- أحزاباً إما دينية، تؤمن بعدم تداول السلطة، وتتمسك بالمنهاج السياسي الأموي والعباسي وما بعد ذلك، وإما أحزاباً عشائرية تعتبر أن زعيم القبيلة/الحزب هو السيد المسود، والزعيم الأوحد حتى الموت. وهو حال رئاسة الحكومة العراقية الحالية، والتي عبّر عنها المالكي أبلغ تعبير، حين قال: "وبعد ما ننطيها".

* كاتب أردني