يمثل الفكر في كثير من الأحيان والأوضاع واسطة بين النص والممارسة، فهو الذي يضع للمعاني والمفاهيم والمضامين التي يحملها النص طريقاً للتطبيق في الواقع. وتبدو تجلية الخطاب في «الفكر» أوقع وأوضح من تجليته في الأنساق الأخرى، سواء كانت نصوصاً أو ممارسات أو حتى إشارات وتعبيرات رمزية غير لفظية. وفي هذا الصدد يجب أن نقر بغزارة الفكر الإسلامي وتبحره، إذ فاضت عقول لا حصر لها بالفهم الذي حصلته من قراءة النصوص وتفسيراتها، والوقوف على السنن وآثارها، وقراءة سير الرعيل الأول من المسلمين المشحونة بالأقوال والأفعال. وتراكم ما أنتجته هذه العقول حتى صار لدينا تلٌ شاهق من المعرفة الإسلامية، لا يمكن لأحد أن يعتليه بمفرده، ولا يستطيع أي فرد أن يدَّعي الإلمام بجوانبه كافة، إلا في الخصائص العامة، والسمات الرئيسية.
وهناك حالة تراكم في المعرفة الإسلامية، شأنها شأن المعارف الأخرى، تجعل إنتاج المعاصرين من مفكري الإسلام متأثراً بما أنتجه السابقون، وقد يمثل، إن كان يحسن الجدل مع الواقع، ذروة لهذا التفكير. وإلى جانب التراكم هناك إعادة إنتاج لكثير من الأفكار التي قيلت أو كتبت في الزمن السابق. فحتى إن أراد البعض أن يصلوا إلى النص المؤسس (القرآن الكريم) مباشرة محاولين فهمه، فإنهم يستعينون بما جاد به من سبقهم من علماء التفسير والفقه، وواضعي المذاهب الإسلامية.وفي ظل هذا التراكم والتشابه يوجد تنوع بات يسير داخل ثلاثة أضلاع أو بين ثلاثة خطوط متوازية، الأول سلفي ماضوي، والثاني وسطي يصل الماضي بالحاضر، والثالث عصري، يريد أن يتجه مباشرة إلى الواقع ليعالجه برؤى جديدة، تتعامل مع روح الإسلام وجوهر رسالته، غير عابئة بما قاله الأوائل، «لأنهم رجال ونحن رجال».وداخل كل نوع من هذه الأنواع هناك العديد من المفكرين والفقهاء والدعاة والخطباء، والفروق بين أصحاب كل لون طفيفة، وواحد منهم قد يغني عن البقية، حال التصدي لدراستهم بوصفهم ظاهرة، أو جماعة فكرية أو فقهية. لكن يبقى أفضل فريق من بين هؤلاء هم «الوسطيون». ويعبر الدكتور يوسف القرضاوي، عن الوسطية في اتزانها المعرفي والنفسي، وفي مزاوجتها بين الأصول، حيث التمسك بكثير مما ورد في تراث المسلمين وبين ما يقتضيه الواقع المعيش من تجديد الفقه وإعمال العقل والتفاعل الخلاق مع ما يجري، في وسطية جلية.وإذا بحثنا عن الخصوصية الثقافية في خطاب القرضاوي، نجده ابتداءً لا يختلف كثيراً عن غيره في رؤيته لشرور العولمة فيقول في إحدى خطبه: «العولمة صكها مَن صكها كمصطلح يغزون به عقلنا وأفكارنا. يقولون: الحداثة، وما بعد الحداثة، النظام العالمي الجديد، وبعدها العولمة. والعولمة في حقيقتها هي الأمركة. عولمة الناس أي أمركتهم حتى يصبحوا خاضعين للثقافة الأميركية والفلسفة الأميركية في عالم الاقتصاد، والثقافة والدين والأمن».ويفرِّق القرضاوي بين «العالمية» التي جاء بها الإسلام و«العولمة» التي يدعو إليها الغرب عامة، وأميركا خاصة، فبينما يدعو المسلمين إلى التفاعل الخلاق مع الأولى ينظر إلى الأخيرة على أنها «فرض هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية من الولايات المتحدة الأميركية على العالم، خصوصاً عالم الشرق والعالم الثالث، وبالأخص العالم الإسلامي». لكن القرضاوي يبدو أكثر وسطية، حين يشدد على ضرورة أن يتفاعل الخطاب الديني مع عصر العولمة من دون أن يغفل الجوانب المحلية والإقليمية، وذلك لسببين، أولهما: أن هذه هي طبيعة الدعوة الإسلامية، فهي ليست دعوة عربية، ولا دعوة شرقية، وليست دعوة عرقية ولا إقليمية بحال، بل هي دعوة للعالمين. وثانيهما أن العزلة الآن لم تعد ممكنة، ولم يعد في إمكان عالم أو داعية أن يغلق أبواب مسجده أو معهده على نفسه، وعلى مصليه أو تلاميذه ، ويقول لهم ما يود أن يقوله من دون أن يسمع به أحد، فقد تقارب العالم وصار «قرية صغرى».وبصفة عامة يضع القرضاوي تصوراً رحباً لما يجب أن يكون عليه الخطاب الإسلامي في زمن العولمة، بما يجعله قادراً على الوصول إلى الناس، بإقناع عقولهم واستمالة قلوبهم. ويجمل خصائص هذا الخطاب في خمس عشرة نقطة هي أن: (يؤمن بالله ولا يكفر بالإنسان- يؤمن بالوحي ولا يغيب العقل- يدعو إلى الروحانية ولا يهمل المادية- يعني بالعبادات الشعائرية ولا يغفل القيم الأخلاقية- يدعو إلى الاعتزاز بالعقيدة وإلى إشاعة التسامح والحب- يغري بالمثال ولا يتجاهل الواقع- يدعو إلى الجد والاستقامة ولا ينسى اللهو والترويح- يتبنى العالمية ولا يغفل المحلية- يحرص على المعاصرة ويتمسك بالأصالة- يستشرف المستقبل ولا يتنكر للماضي- يتبنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة- يدعو إلى الاجتهاد ولا يتعدى الثوابت- ينكر الإرهاب الممنوع ويؤيد الجهاد المشروع- ينصف المرأة ولا يجور على الرجل- يصون حقوق الأقلية ولا يحيف على الأكثرية).وبالنسبة لتأثير العولمة على الخصوصية الثقافية يرى القرضاوي أن أميركا «تريد فرض ثقافتها الخاصة التي تقوم على الفلسفة المادية والنفعية وتبرير الحرية إلى حد الإباحية، وتستخدم أجهزة الأمم المتحدة لتمرير ذلك في المؤتمرات العالمية». وهنا يستشهد بما جرى في مؤتمر السكان الذي استضافته القاهرة في صيف 1994، حيث محاولة تمرير وثيقة تبيح الإجهاض بإطلاق، وتجيز زواج المثليين، والاعتراف بالإنجاب خارج الزواج الشرعي، وكذلك بمؤتمر المرأة الذي انعقد ببكين سنة 1995، وكان استمراراً لمؤتمر السكان، وتأكيداً لمنطلقاته، واستكمالاً لتوجهاته. ويقدم القرضاوي أدلة تبرهن احترام الإسلام للخصوصيات الثقافية والاجتماعية، فيؤكد أن الإسلام يعترف باختلاف الأمم، وحقها في البقاء، حتى لو كانت أمة من الحيوانات، فما بالنا بأمم من البشر. كما لا ينسي الخطاب الإسلامي البعد المحلي، فالأقربون أولى بالمعروف والشفعة.ويصل تفاعل القرضاوي مع العطاء الفكري والحضاري للآخر ذروته في الجوانب السياسية والحقوقية، فيقول: «لقد انتهى حصاد تجارب إنسانية من مختلف العصور ومختلف البيئات، تتمثل في (ضمانات) أساسية لحماية حق الشعوب ضد طغيان الحكام وأهوائهم، مثل المجالس النيابية، وما لها من حق مراقبة الحكومة ومحاسبتها، بل إسقاطها، ومثل الدساتير، التي تحدد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتصون حريات الأفراد، وتحد من طغيان السلطات الحاكمة، ومثل حرية الصحافة، وتعدد الأحزاب، وتكوين النقابات، وحق الإضراب. ويجب علينا - نحن المسلمين - أن نعض بالنواجذ على هذه الضمانات، التي كسبتها الإنسانية بالجهاد الطويل مع الفراعنة والجبابرة والطغاة، وأن نعتبر الحفاظ على هذه الضمانات والمكاسب فرضاً دينياً، لا يجوز التفريط فيه، لأن العدل والشورى والنصيحة، وأداء الأمانات، والأمر بالمعروف والنهي عن الـمنكر، التي أوجبها الإسلام لا تتم إلا بها، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب».* كاتب وباحث مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
العولمة والخصوصية الثقافية في خطاب القرضاوي
28-07-2009