مصير الاستشراق في رحاب أوباما
بعد خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في جامعة القاهرة بدأ سؤال يلح على العقلين الشرقي والغربي معا حول مصير تلال الكتب التي ألفها المستشرقون ورسموا عبر صفحاتها صورا نمطية للشرق، لاتزال مستقرة في الذهن والمخيلة الغربية، وتسهم في تحديد رؤية الأوروبيين والأميركيين لنا، وتصرفاتهم معنا. وبداية فإننا حين نتحدث عن الاستشراق لا يمكن أن نتجاهل، بأي حال من الأحوال، الكتاب الأثير والعميق والرائع للمفكر الكبير إدوارد سعيد، الذي عرف الاستشراق بأنه هو «المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق، بإصدار تقارير حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، ووصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه، وهو أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه، وهو إنشاء استطاعت به الحضارة الغربية أن تتدبر الشرق، بل حتى أن تنتجه، سياسيا واجتماعيا وعسكريا وعقائديا وعلميا وتخيليا، حتى أنه أصبح ليس بوسع أي إنسان أن يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلا متعلقا به أن يقوم بذلك دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل، ولا يعني هذا أن الاستشراق، بمفرده، يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة، يكون فيها الشرق موضعا للنقاش». ونظرا لأن الاستشراق لم يكن كله عمليا منصفا يروم الحقيقة، إنما رأس حربة لمشروعات استعمارية، فإنه كرس صورا نمطية سلبية مغلوطة عن «الشرق» لاسيما عن العرب والمسلمين، مدفوعا بالنزعتين الاستعمارية والصهيونية. وتقوم الرؤية الاستشراقية على أنه إذا كان العربي ذا تاريخ على الإطلاق فإن تاريخه جزء من التاريخ الممنوح له أو المستلب منه. وبناء عليه ظهر العربي في الكتابات الغربية على أنه يمثل قيمة سلبية، وهو عدو للغرب، وعقبة أمكن تجاوزها لخلق إسرائيل، وارتبط في الأفلام والتلفاز على أنه شخص فاسق وغادر ومخادع ومتعطش للدماء وذو طاقة جنسية مفرطة، قادر على المكيدة، ومراوغ وسادي وخؤون، ويظهر في أدوار قائد عصابات اللصوص المغيرين، والقراصنة، والعصاة من السكان الأصليين. بدوره راح الإعلام الغربي يكرس جهدا وفيرا للحملة على العرب، وتشويه صورتهم، بعد أن انتهى من تشويه صورة الزنوج والهنود الحمر وبعض الأقليات التي تعيش في أوروبا وأميركا. ووصلت هذه الصورة المشوهة إلى مناهج التعليم نفسها، في مختلف المدارس الغربية، لتصبح جزءا من مضامين التنشئة الاجتماعية. ولم يكن الشرق على مستوى التحدي في مواجهة الاستشراق، ولم يطرح ما يسميه الفيلسوف العربي الكبير حسن حنفي «الاستغراب»، أي دراسة الشرقيين للمجتمعات والفكر والتاريخ والفن والأدب الغربي. فالاستغراب لايزال دعوة حالمة متفائلة لدراسة الغرب وتفكيك ثقافته وتوجهاته، لفهمها وهضمها، وامتلاك آليات فاعلة للتعامل معها. لكن هذه الدعوة لم تنتج تيارا عريضا متدفقا مثل الذي أنتجه الاستشراق، وهي ليست سوى جهود فردية متناثرة، تضرب يمينا ويسارا، بلا هدف محدد، ولا خطة ناظمة. لكنها في كل الأحوال لا تقوم على تشويه الغرب، اللهم إلا في بعض كتابات أتباع التيار الإسلامي، مثل ما كتبه سيد قطب ومحمد قطب، بل تنطوي في أغلبها على الإعجاب به، ومحاولة تمثله، والاقتداء بما أنجزه في المعارف التطبيقية والإنسانية والفنون، وفي العمران البشري، لاسيما في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويحتاج حوار الحضارات، الذي شدد عليه أوباما في خطابه إلى العالم الإسلامي، إلى تصحيح الصور النمطية المغلوطة، وإلا ظل مجرد ترف نخبوي، ورتوش مزيفة، وخطابات علاقات عامة، تظهر وقت الأزمات، ويتم استخدامها مطية لأحوال السياسة وتقلباتها. ويحتاج أيضا إلى إنهاء اللغة والتوجهات الاستعلائية، التي تنطلق من أن هناك أطرافا أقوى وأكثر تحضرا من الأخرى المتحاورة معها، ومثل هذا التصور يقود إلى إذكاء الصراع وتأجيجه، وليس إلى قيام حوار إيجابي يقود إلى التعاون. فالصراع يحدث عندما تختال إحدى الثقافات على الأخريات، وتعتبر نفسها الثقافة العظمى، ودونها الصغريات، والعلاقة بينهما هي علاقة ميتافيزيقية، علاقة بين الواحد والكثير، علاقة ذات صلة بالوجود، علاقة بين الإله والمخلوقات، بل إنها علاقة أخلاقية بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، إنها ثقافة واحدة، في سعيها إلى القوة، تتجاوز كل الثقافات الأخرى، وتتفوق عليها. ويعني هذا تجاوز الرؤية الاستشراقية التقليدية المناطقية، التي بدأت مع حركة استعمار الغرب للشرق، وتقوم على أن العداء بين الاثنين أصيل ولا فكاك منه، وتفعيل الرؤية الاستشراقية المعدلة التي تدعو إلى الحوار بين الثقافات والحضارات والأديان انطلاقا من أن الصدام الحضاري ليس صداما حول المسيح ومحمد وكونفوشيوس، بقدر ما هو صراع يسببه التوزيع غير العادل للقوة والثروة والنفوذ، وصولا إلى «الرؤية المدنية الشعبية» التي تنهض على أكتاف الغربيين المتحررين من التراث الاستعماري، والنازعين إلى بناء روابط إنسانية، لا ترضخ للمصالح الضيقة للدول، ولا تنظر إلى «الآخر» باعتباره كتلة صماء، وترفض أي صراع على أساس الحضارات. ومن دون تحقق هذا سيصبح خطاب أوباما مجرد كلام عابر، لا يغير في تاريخ الصراع بين الشرق والغرب، ولا ينهي سيطرة المحاربين عليه.* كاتب وباحث مصري
كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء