لم يخرج أوباما عن الحقيقة، ولم يجامل أحدا حين اعترف بفضل الحضارة العربية-الإسلامية على الغرب، فالحضارات الإنسانية تتوارث مجدها وإمكاناتها، ويركب بعضها بعضا في رقائق متتابعة عبر التاريخ البشري المديد، كما أن كل حضارة في حد ذاتها لا تفنى كلية، وإن تخلفت عن الركب، وسلمت الراية لغيرها، بل يبقى هناك أثر موجود ينقله جيل إلى جيل، فلايزال لدى المصريين المعاصرين نصيب من الحضارة الفرعونية، والأمر نفسه ينطبق على أحفاد الآشوريين والبابليين والصينيين والهنود. ويظهر هذا الوضع بجلاء إن أمعنا النظر في الحضارة العربية-الإسلامية، التي أفل نجمها، لكن لايزال العرب والمسلمون يقتاتون على عطائها الروحي والقيمي، الذي لم ولن يفنى.

Ad

وقد رسخ ول ديورانت هذا التصور في موسوعته الأثيرة «قصة الحضارة»، حيث روى تاريخ المدنية في خمسة أجزاء مستقلة، وأطلق على كل منها لفظ «تراثنا» ليبرهن من خلال «نا» الـ«نحن» على إيمانه بالإرث الإنساني المشترك، ثم يدافع عن اختياره الشرق نقطة لانطلاق الحضارات الإنسانية بقوله: «إن قصتنا تبدأ بالشرق، لا لأن آسيا كانت مسرحا لأقدم مدنية معروفة لنا فحسب، بل كذلك لأن تلك المدنيات كونت البطانة والأساس للثقافة اليونانية والرومانية، التي ظن (البعض) خطأ أنها المصدر الوحيد، الذي استقى منه العقل الحديث، فسيدهشنا أن نعلم كم مخترعا من ألزم مخترعاتنا لحياتنا، وكم من نظامنا الاقتصادي والسياسي، ومما لدينا من علوم وآداب، وما لنا من فلسفة ودين، يرتد إلى مصر والشرق... والتعصب الإقليمي الذي ساد كتابتنا التقليدية للتاريخ، التي تبدأ روايته من اليونان، وتلخص آسيا كلها في سطر واحد، لم يعد مجرد غلطة علمية، بل ربما كان إخفاقا ذريعا في تصوير الواقع، ونقصا فادحا في ذكائنا».

ورغم التخلف المادي الذي أصاب الشرق في العصور الحديثة والمعاصرة، بينما أخذ الغرب بأسباب التقدم التقني، ووصل فيه شأنا عاليا، فإن المراكز الحضارية القديمة لاتزال تقدم رؤية مغايرة في الجوانب الروحية والفنية، علاوة على أن بعض دولها أخذت هي الأخرى تسرع على درب امتلاك صناعة متطورة تعتمد على أعلى مراتب التقنية ومراحلها. وهنا يقول زكي نجيب محمود: «نستطيع أن نقول على وجه الإجمال إن في العالم طرفين مختلفين من حيث النظرة إلى الوجود، فالشرق طابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجي ببصيرة تنفذ خلال الظواهر البادية للحس إلى حيث الجوهر الباطن، وتلك هي نظرة الفنان إلى الأشياء، أما الغرب فطابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجي بعقل منطقي تحليلي، يقف عند الظواهر مشاهدا لها ليستخلص القوانين التي تحكمها، وتلك هي نظرة العالم.. وهي النظرة لا تنفي بطبيعة الحال أن يكون في الشرق علماء، وفي الغرب رجال فن ودين، لكننا نطلق القول على وجه من التعميم الواسع، الذي يفسر بعض التفسير ما هو شائع على الألسنة من وصف الشرق بالروحانية، ووصف الغرب بالمادية».

وحتى داخل العلم ذاته، أو المنظومات المعرفية البحتة، فإن الشرقيين لديهم رؤية ومنظور للظواهر الإنسانية والطبيعية، مختلف عن تلك التي يتصف بها الغربيون، «فالهيكل الاجتماعي ومعنى الذات اللذين يميزان الشرقيين من الغربيين، يتلاءمان تماما مع المنظومات العقيدية والعمليات المعرفية عند كل منهما. فالطبيعة الجمعية والتكاملية للمجتمع الآسيوي تتسق مع نظرة الآسيويين العامة والمتداخلة إلى العالم، ومع إيمانهم بأن الأحداث شديدة التعقد والتحدد بسبب عوامل كثيرة، وتبدو الطبيعة الفردية والمستقلة للمجتمع الغربي متسقة مع تركيز الغرب على الموضوعات الجزئية في استقلال عن سياقها، وكذا مع إيمان الغربيين بأن بإمكانهم معرفة القواعد والقوانين الحاكمة للموضوعات ومن ثم يمكنهم التحكم في سلوكهم».

ويطرح عالم النفس الأميركي ريتشارد إي نسيبت، عدة أسئلة تحدد مجالات للتمايز بين الشرق والغرب، تفضي الإجابة عنها إلى الاقتناع بضرورة تحاورهما وتكاملها، حيث يتساءل:

«لماذا تميز الصينيون القدماء في علم الجبر والحسابات دون الهندسة، التي كانت قلعة الإغريق؟ لماذا يتميز الآسيويون المحدثون في الرياضيات والعلوم بينما كان حصادهم في العلم الثوري أقل من الغربيين؟ لماذا أبناء شرق آسيا أقدر من الغربيين على رؤية العلاقات بين الأحداث والوقائع؟ ولماذا يجد أبناء شرق آسيا أن من الصعب عليهم نسبيا عزل الموضوع عن سياقه؟ لماذا الغربيون أميل إلى تجاوز آثار السياق في سلوك الأشياء بل الناس؟ ولماذا الشرقيون أميل إلى الانحياز للنظر إلى الحادث بعد وقوعه مما يسمح لهم بالاعتقاد بأنهم يعرفونه دائما؟ لماذا أطفال الغرب يتعلمون الأسماء بدرجة أسرع كثيرا من الأفعال، بينما أطفال الشرق يتعملون الأفعال بدرجة أسرع كثيرا من الأسماء؟ ولماذا ينزع أبناء شرق آسيا إلى تجميع الأشياء والأحداث تأسيسا على كيفية ارتباطها بعلاقات مع بعضها، بينما الغربيون أميل إلى الاعتماد على المقولات والفئات؟ لماذا الغربيون أميل إلى استخدام المنطق الشكلي عند التفكير عقلانيا في الأحداث اليومية؟ ولماذا إصرارهم على المنطق حتى إن أدى أحيانا إلى وقوعهم في أخطاء؟ ولماذا يميل الشرقيون ميلا كبيرا إلى التفكير في ضوء القضايا واضحة التناقض؟ وكيف يساعدهم هذا أحيانا على الوصول إلى الحقيقة؟

وبعد أن يشتبك نسيبت في الإجابة عن هذه الأسئلة الجوهرية والدقيقة، ينتهي إلى نتيجة بالغة الدلالة، حيث يقول: «نحن جميعا نكون في مجالات ما أكثر شبها بأبناء شرق آسيا حينا من الوقت، وأكثر شبها بالغربيين حينا آخر. لذلك لنا أن نتوقع أن تحولا يطرأ على الممارسات الاجتماعية المميزة من شأنه أن يؤدي إلى تحول في الأنماط القياسية للإدراك والفكر. لهذا أؤمن بأن الاثنين سيلتقيان بفضل تحرك كل منهما في اتجاه الآخر. الشرق والغرب يمكن أن يسهما في نشوء عالم مزيج، حيث تتمثل الجوانب الاجتماعية والمعرفية لكل من الإقليمين، ولكن في صورة متحولة، تماما مثل المكونات الفردية لطعام ما، حيث يمكن تمييزها، وإن تغيرت وتغير معها الكل. ولعلنا لا نبالغ في الأمل بأن هذا الطعام سيحتوي على أفضل ما في الثقافتين.

ولهذا كله فإن حديث أوباما عن تحالف الحضارات ينطوي على فهم منطقي للتفاعل الخلاق بين الحضارات، وهو نهج يجب أن نتبعه، حتى تذهب مقولة صراع الحضارات إلى القبر، لا راضية ولا مرضية.

* كاتب وباحث مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء