في الشأن الانتخابي
لا يصح أن أظلّ شاعراً، وأنا أتابع طوفان الانتخابات في بلدي العراق، عبر الفضائيات العراقية، التي لا يحصيها العد. يجب أن أتابعها كمواطن، له حقوق، وعليه واجبات. الشاعر فيّ كائنُ أهواءٍ جد شخصية، وتطلّعاتٍ لا تمسّ الأرض إلا بأطراف حوافر كائن أسطوري، يستعين بأجنحةِ الخيال، وبدمِ العواطف في العروق. يسألُ ولا يَعد بإجابة. في حين أن العراقي فيَّ كائنُ مصالح أرضية، تتوافق وتتقاطع مع مجموع الناس. يحذر المتاهة، لأنه يستعين بالآخر، من أجل الاتفاق على إجابة يقينية.
أرتاع حين أقرأ لشاعر لا يطيق مساعي الناس الأرضية، ولا مُعتَرك مصالحهم. ويريدُ بكائن الأهواء فيه أن يتحكم في كائن المصلحة الأرضي. يكتفي بسحر البيان في تحقيق رؤياه، وعلى هُدى هذه الرؤيا يقود الناس كقطيع. ولذلك أجده على الدوام محتقنَ الوجه، عالي الشكوى: «نبي تًنكره كل قبيلة»، ولا تصغي إلى متطلباته.ولكني حين أتابع الفضائيات أجدني، عن غفلة، كثيراً ما أسرح كشاعر في مرعى المُعترك. غريباً عن هذه اللغة، وهذه الحماسات، واحتقان الأوجه. ثم سرعان ما تُعيدني مشاهدُ النخل، الجسور، المنائر، العباءات السود إلى الأرض، فأرتجف. أصبح بالغَ العراقية. عراقياً بين عراقيين. ولكنْ، أسأل النفس، لمَ إحساسي بالغربة بين الأوجه، وإحساسي بالألفة بين النخيل، والجسور، والمنائر، والعباءات السود؟ ألستُ الذي ينتصر للإنسان، في وجه طغيان الأفكار والعقائد؟ فلمَ انتصرت الطبيعة على الإنسان هنا؟أعرف أني، في هذا، لستُ ممن يحب العزلة مع الطبيعة، وممن «يطير إذا ما صوّت إنسانٌ». ولكن السببَ، أُجيبُ النفسَ، كامن في سطوة الزمان على الكائن الزائل. نعم، فقد رحل زمني العراقي منذ أكثر من ربع قرن. رحل دون عودة، أو حتى محض التفاتة. ذهبت، وذهب معي أبطاله الكثيرون: ندمان كاردينيا، أبطال العباسية، رائحة السمك في الماء، أهواء الستينيين، ليلُ «أبي نؤاس»، المحباتُ الخاطفة كصنّارة في فم سمكة. وحلّت بدل ذلك جغرافيا غريبة، وتدفّقَ على المشهد أحياءٌ غرباء. ولأن البشر فانون بدت لغتُهم زمانية، مؤقتة. في حين ظلت لغة النخل، الجسور، المنائر، العباءات السود عصية على الزوال. تلاشت اللغة المشتركة بيني وبينهم، وبقيت اللغة المشتركة بيني وبين ثوابت الطبيعة. فقد تبين لي أن الخيالَ يستعين بهذه الثوابت أكثر من استعانته بلغة الناس وهيئاتهم. والسببُ أن لغة الناس وهيئاتِهم فردية تتلاشى مع الزمن، لتحل بدلها لغة وهيئات غير فردية وجديدة. وتنبّهتُ، لأول مرة ربما، أن كلَّ قصائدي التي تعتمدُ الذاكرةَ تعتمد ثوابت الطبيعة تلك.ولكن ما الذي يحركني باتجاه انتخابات العراقيين في وطني النائي؟ فأنا لم أسِرْ طوال حياتي تحت راية بعينها. ولا مصلحة لي في انتصار طرف دون طرف، في عمر تجاوز الستين، ومتاهة تفتقر إلى أي دليل، في عزلة الغرب هذه. على أني لا أبصر أمامي اليوم إلا مُعتركَ رايات. قوميات تصرخ: لا للشوفينية. أديان: لا للتعصب. طوائف: لا للطائفية. ومعلقون يقولون ساخرين: إنها مجرد دعاية انتخابية. ولكنني أعرف أن المرشحين يوجهون صرختهم إلى الناخبين. وكسبُ رضا الناخبين مُنتهى طموحهم. وإذا كان الناس يكرهون الشوفينية القومية، والتعصب الديني، والطائفية، فلم تحرص الأحزاب على دحر نفسها إذن؟صرتُ لا أُصدّق ذلك. نعم، كانت الأحزابُ عقائدية ذات يوم. والعقائدي يفتقد البصيرة. ويمكن أن يرتضي نهايته ونهاية الناس جميعاً من أجل المبدأ. ولكن مُعتركه اليوم لا يمكن أن يكون عقائدياً، حتى لو بدأ كذلك. الصراعُ على السلطة يعرِكُ عُصابَ العقائدي. المصلحة تُلينُ العريكة. أرباحُ السوق تُعلّم المداهنة. الأحزابُ الدينية صارت تتحدث بلغة العلمانيين كسباً لرضا الناس. العلمانيون صاروا يبسملون للهدف ذاته. الشيوعيون يحاورون الأمريكان ويرتضون الديمقراطية سبيلاً. والجميعُ صادقون في علم السياسة، حتى لو أخْفوا قناعاتِهم القديمة. إذ ما فاعلية قناعةٍ لا تتنفّس؟عادت دورةُ أفكاري لتلتقي بقناعتي القديمة: لا تخشَ ذا المصلحة في السوق كثيراً، حتى لو غشّ. بل وفّر حذرك وخوفك من العقائدي المُخلص. مُنتهى طموح الأول أن يربحَ منك بالحيلة. لكن مُنتهى طموح الثاني أن يقتلك بعبوة ناسفة.