كانت المادة 23 من الدستور محور مقالي يوم الأحد الماضي، باعتبارها العباءة الدستورية للمساءلة السياسية، وقلت إنها لا تصلح أساسا دستوريا للاستجوابات التي تقدم لرئيس مجلس الوزراء، في مسائل تخضع للإشراف المباشر للوزراء، في ما تنص عليه من أن "يهيمن مجلس الوزراء على مصالح الدولة ويرسم السياسات العامة للحكومة ويتابع تنفيذها ويشرف على سير العمل في الإدارات الحكومية".

Ad

وقد أطلت هذه المادة برأسها، بمناسبة نظر مجلس الأمة للحسابات الختامية لبعض الجهات الحكومية، حيث ينعى ديوان المحاسبة على هذه الجهات مخالفتها لبعض القرارات التي أصدرها مجلس الوزراء.

ولا يعبأ مفتشو الديوان بردود هذه الجهات، بأنها التزمت بأحكام القوانين، التي تنظم المسائل موضوع هذه الملاحظات، وأن هذه القوانين هي الواجبة التطبيق وليست قرارات مجلس الوزراء.

والواقع أن بعض مفتشي الديوان يكونون مدفوعين في أخذ هذه الجهات بهذه المخالفات، بأنهم يلقون كل تقدير من رؤسائهم بالكشف عن أي مخالفات تنسب إلى هذه الجهات، وكلما زاد عدد هذه المخالفات، زاد التقدير، فضلا عن الترحيب الذي يلقونه من مجلس الأمة ولجانه بالكشف عن هذه المخالفات، وهم مطمئنون أيضا إلى أن القرار النهائي في حسم الخلاف بين ديوان المحاسبة وبين هذه الجهات سيكون لمجلس الوزراء الذي أصدر هذه القرارات إعمالا لأحكام المادة (33) من قانون ديوان المحاسبة التي تنص على أنه "إذا وقع خلاف بين الديوان وإحدى الوزارات أو المصالح أو الإدارات أو المؤسسات أو الهيئات العامة بشأن الرقابة التي يمارسها الديوان، يعرض الأمر على مجلس الوزراء للبت فيه، ويعمل بالقرار الذي يصدره هذا المجلس".

وهو ما يطرح سؤالا مهما يحسن أن تكون الإجابة عنه واضحة وهو: هل تصلح المادة (123) من الدستور لتكون سندا لديوان المحاسبة في ما ينسبه إلى الجهات الخاضعة لرقابته من مخالفات لقرارات مجلس الوزراء، باعتبار أن هذا المجلس هو الذي يهيمن على مصالح الدولة؟

وفي رأينا أن ما يمارسه مجلس الوزراء من صلاحيات، بحكم هيمنته على مصالح الدولة، في رسم السياسة العامة للحكومة ومتابعة تنفيذها والإشراف على سير العمل في الإدارات الحكومية، إعمالا للمادة (123) من الدستور، إنما يتم في إطار دولة قانونية يسودها مبدأ سيادة القانون، وجوهره احترام مبدأ تدرج القواعد القانونية، الذي يقضي بأن القواعد القانونية التي يتكون منها النظام القانوني للدولة ترتبط ببعضها ارتباطا تسلسليا، وإنها ليست جميعها في مرتبة واحدة من حيث قوة الإلزام، فنجد في القمة الدستور، وهو أعلى مرتبة من القواعد التشريعية العادية التي تصدر في شكل قوانين تصدرها السلطة التشريعية، والمراسيم بقوانين التي تصدرها السلطة التنفيذية في غياب مجلس الأمة، وهذه وتلك أعلى مرتبة من المراسيم الصادرة عن السلطة التنفيذية في صورة لوائح، سواء أصدرها مجلس الوزراء أو أصدرها الوزراء، بموجب السلطة المخولة لهم بالقوانين، إما لتسهيل تطبيق القانون وتيسير تنفيذه وهي اللوائح التنفيذية، وإما لتنظيم بعض المسائل ابتداء، وهي اللوائح المستقلة التي تستمد السلطة التنفيذية حقها فيه من سلطتها في تنظيم المصالح العامة إعمالا للمادة (73) من الدستور، كما تحتل القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح مرتبة أعلى من المراسيم والقرارات الفردية الصادرة بمراسيم أو بقرارات من مجلس الوزراء أو من الوزراء أو من غيرهم.

 ومما يذكر في هذا السياق، أن مجلس الدولة الفرنسي ألغى مرسوما (decret) أصدره رئيس الجهورية "ديغول" وقتئذ، لأنه خالف لائحة أصدرها مجلس قروي.

وقد جسد الدستور مبدأ تدرج القواعد القانونية في المادتين (72 و73) اللتين وضعتا قيدا أساسيا على ممارسة الأمير ومجلس الوزراء صلاحياتهما في دور إصدار وإقرار اللوائح التنفيذية واللوائح المستقلة، هو ألا تتضمن اللوائح التنفيذية تعديلا في القوانين أو تعطيلا لها أو إعفاء من تنفذها (مادة 72) وألا تتعارض اللوائح اللازمة لترتيب المصالح والإدارات العامة ومع القوانين (مادة 73).

ومن ثم يجب، "في تفسير نص المادة 123" وما ورد فيها من هيمنة مجلس الوزراء على مصالح الدولة ألا يفسر هذا النص بمعزل عن هذين النصين، أو سائر نصوص الدستور الأخرى، وكأنه هائم في فراغ، بل هي تتكامل في إطار منظومة تجمعها وتتكافأ مفرداتها فيما بينها، لتحقق البناء الدستوري الذي أقام الحكم على مبدأ الفصل بين السلطات، مع تعاونها، وعدم جواز نزول أي سلطة عن اختصاصها، هو ما تنص عليه المادة (50) من الدستور.

وأنه إذا كانت المراسيم التي تصدر باللوائح التنفيذية واللوائح اللازمة لترتيب المصالح والإدارات العامة، وهي المراسيم التي يصدرها الأمير بعد موافقة مجلس الوزراء، يقيدها الدستور بوجوب عدم خروجها على أحكام القوانين أو تعارضها معها، وألا تؤدي هذه المراسيم إلى تعديل في القوانين أو تعطيل لها أو إعفاء من تنفيذها، فإن مجلس الوزراء في ما يصدره منفردا من لوائح أو قرارات، يكون مقيدا من باب أولى بالقوانين، وبعدم جواز تعديلها أو تعطيلها أو الإعفاء من تنفيذها.  

وإن على مفتشي ديوان المحاسبة أن يتنبهوا إلى هذه الحقائق الدستورية، وأن يرفعوا مخالفات الجهات الخاضعة لرقابته لقرارات مجلس الوزراء، من مدونة المخالفات التي تنسب إلى هذه الجهات، طالما أنها قد التزمت بأحكام القوانين، إذ لا تعدو قرارات مجلس الوزراء، أن تكون توجهات للوزراء، بما لا يخل بالقوانين لأن القانون سيد الجميع، ولا أحد سيد قراره.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.