لا أستطيع أن أكتم خشيتي من التعديلات التي يراد إدخالها على قانون التأمينات دون دراسة للأسس الفنية التي يقوم عليها نظام التأمينات الاجتماعية في ظل مرحلة من الحضارة الإنسانية أصبحت المعلومات والأرقام هي إحدى سماتها، بل هي إفراز لهذه الحضارة في رقيها، وليست مجرد وسيلة معزولة عن سياقها الاجتماعي، بل هي عملية تتسع لتشمل الظروف الاجتماعية لمجتمع ما ومنظومته والجوانب المختلفة للسلوك الاجتماعي.
وتقوم هذه المعلومات والأرقام على أساس من الحسابات المعقدة القائمة على الاحتمالات، التي تعرف بالحسابات الاكتوارية، وهو ما لا يجوز تجاوزه تحت أي دعوى أو ادعاء أو قول مرسل بعدم صحة هذه الأرقام والافتراضات، وصولا إلى تحقيق الانفعال ببعض المطالب الشعبية الآنية، لأن تلبية هذه المطالب ليس على حساب هذه الأمة بأجيالها السابقة والقادمة فحسب، بل على حساب المؤمن عليهم من الجيل الحالي الذي يمول هذا النظام باشتراكاته، وقد لا يستطيع النظام الوفاء بالتزاماته نحوه، عندما يبلغ السن ويستكمل المدة التي تؤهله لاستحقاق المعاش، كما قد تتوقف المؤسسة كذلك عن الوفاء بالتزاماتها نحو المستحقين من أبناء الأجيال السابقة.لا أظن أن نظاما من الأنظمة القانونية، كان أكثر وفاء بأحكام الدستور وروحه من نظام التأمينات الاجتماعية، فهو النظام الذي يجسد المقومات الأساسية للمجتمع كما أوردها الدستور الكويتي فيما نص عليه من أن التعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين (مادة 7) وأن الدولة تكفل الأمن والطمأنينة للمواطنين (مادة 8) وأن الأسرة أساس المجتمع يحمي القانون في ظلها الأمومة والطفولة (مادة 9) وأن الدولة ترعى النشء وتحميه من الاستغلال وتقيه الإهمال الأدبي والجسماني والروحي (مادة 10)، فهذه المقومات التي اعتبرها الدستور مقومات أساسية للمجتمع هي كذلك مقومات أساسية لنظام التأمين الاجتماعي، هي ركائز هذا النظام وفلسفته التي يقوم عليها.ولهذا ألزمت المادة (11) من الدستور الدولة بتوفير خدمات التأمين الاجتماعي، وإعمالا لهذه الأحكام صدر قانون التأمينات الاجتماعية، ولا أظن أن نظاما من الأنظمة القانونية المعاصرة، كان أكثر وفاء بالمبادئ الإسلامية السامية وأكثر تحقيقا لمقاصد الشريعة الإسلامية السامية، وأكثر إثباتا لحقيقة جوهر الدين وروحه من نظام التأمينات الاجتماعية، الذي يقوم على تكافل المؤمن عليهم لمواجهة الأخطار التي يتعرضون لها، إذا حلت بأحدهم، كل بمقدار ما يدفع من اشتراكات فلا يختص بالكارثة من وقعت عليه وحده بل يتعاون الجميع على تحملها، مصداقاً لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، كما يقول (صلى الله عليه وسلم): "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه"... "والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".إن التكافل الاجتماعي الذي يقوم عليه نظام التأمينات الاجتماعية هو جوهر العقيدة الإسلامية، فطاعة الله ليست مقصورة على العبادة، بل هي شاملة للمنهج الإلهي كله، والذي منه، إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب.ولا أظن أن نظاما اجتماعيا واقتصاديا وماليا كان له هذا الأثر في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكويت، مثل نظام التأمينات الاجتماعية، أو أن نظاما اجتماعيا واقتصاديا وماليا كان من العموم والشمول، مثلما عليه هذا النظام، الذي يشمل بمظلته الفرد والأسرة، والرجل والمرأة والكبار والصغار، حتى الموتى في قبورهم إن تركوا زوجا أو صغارا، أو والدين أو إخوة وأخوات.وبالرغم من العموم والشمول الذي اتسم به هذا النظام، من ناحية الخاضعين لمظلة التأمينات الاجتماعية والتوسع في منح المعاشات التقاعدية، وأنها تزيد بكثير عن مثيلتها في كل دول العالم، فإن المؤسسة استطاعت أن تطور هذا النظام إلى مزيد من الشمول والمزايا والكفاية للمتقاعدين والمستحقين عنهم، وأن تمد استحقاق المعاش التقاعدي للمؤمن عليه دون اشتراط أي حد أدنى من مدة اشتراكه في التأمين إلى الوفاة والعجز الكامل عندما يقعان بعد تاريخ انتهاء الخدمة وخلال السنتين التاليتين له.إن قانون التأمينات الاجتماعية هو أحد القوانين التي ترعى الإنسان منذ طفولته إلى أن يوارى التراب، مع اعتزاز بكرامة الفرد وحرص على مصلحة المجموع، الأمر الذي يتطلب الحفاظ على بنائه الشامخ من أجل مستقبل الأجيال القادمة.
مقالات
ما قل ودل: نظام التأمينات الاجتماعية... إلى أين؟
08-02-2010