قطوف من الحكمة التركية

نشر في 13-06-2010 | 00:01
آخر تحديث 13-06-2010 | 00:01
 ياسر عبد العزيز "اهتم بالآخرين بقدر ما يهتمون بك" (حكمة تركية).

لم يجد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أفضل من الحكمة العربية القائلة: "الجار قبل الدار"، ليفتتح بها حديثه إلى "المنتدى العربي- التركي"، الذي عقد في إسطنبول، الأسبوع الماضي، وهو الحدث الذي كرس عدداً من الخطوات الإيجابية الفارقة، التي اتخذتها أنقرة حيال جوارها العربي، منذ مطلع العام الماضي 2009.

لا شك أن المبادرات التركية تجاه العالم العربي مبادرات جديرة بكل احترام واعتبار، خصوصاً أنها لم تقتصر أبداً على الخطاب الناعم أو الشعارات الجوفاء، لكنها تعدت ذلك لتتحول سياسات واقعية، مثلت رصيداً جيداً للقضايا العربية، وخصمت بقدر من المخزون الاستراتيجي للعلاقات بين دولة الخلافة العثمانية وإسرائيل.

تقول الحكمة التركية: "الكلام الجميل يفتح الأبواب المغلقة"، وقد كان الكلام التركي في حق الشريك العربي العتيد جميلاً بحق، بل إن الفعالية كلها اتسمت بالود، وتجللت بالوفاق، ووعدت بالمستقبل المشرق للعلاقات بين الجانبين.

حرص الأتراك خلال المنتدى، والمؤتمر الذي عُقد بموازاته لتدعيم العلاقات التجارية والاقتصادية، على توفير كل الظروف الملائمة للنجاح؛ فقد استخدموا اسم "خليج البصرة"، عوضاً عن الوقوع في شرك الخلاف العربي- الإيراني على تسمية الخليج، كما أحضروا النجم الذي لعب دور "مهند" في أحد المسلسلات التركية الرائجة، وخلب ألباب المشاهدين العرب من الماء إلى الماء، ليدعم حظوظ التقارب عبر حضوره ذلك الحدث المهم.

وإلى جانب التوافق السياسي النادر بين الجانب العربي ممثلاً في أمين عام الجامعة العربية وعدد من الوزراء، والجانب التركي ممثلاً في معظم قيادات الدولة، فقد دشن الجانبان اتفاقا لإقامة مجلس أعلى للتعاون، يضم إلى جانب تركيا كلاً من سورية ولبنان والأردن، بهدف تحرير التجارة وإلغاء التأشيرات.

وعوضاً عن اللجوء إلى "الدوبلاج السوري" لترجمة المسلسلات السورية إلى إحدى اللهجات العربية، بات طريق أنقرة مفتوحاً إلى عقول العرب وقلوبهم، ليس فقط عبر الدراما والعبارات الإنشائية والحديث عن الروابط المشتركة، ولكن أيضاً بعدما تعمدت تلك العلاقات بالدم، وتكرست بالمواقف السياسية الواضحة.

فمنذ المشادة بين أردوغان وبيريز، في إحدى جلسات منتدى دافوس، في يناير قبل الماضي، على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة، لم توفر أنقرة سبباً لتعزيز الاعتقاد بجديتها في مقاربة القضية الفلسطينية بشكل أكثر نزاهة وبعزم ماض لا يلين على الوصول إلى حل عادل لتلك المشكلة، التي أعيت الإقليم والعالم على مدى ستة عقود.

وكان الدم التركي الذي سال في واقعة "مجزرة قافلة الحرية" بنيران الجنود الإسرائيليين دليلاً واضحاً على أن الأمور لن تعود بين أنقرة وتل أبيب إلى طبيعتها بسهولة، وأنها اتخذت منحى مغايراً تماماً للتعاون الاستراتيجي الذي تكرس بينهما منذ أعلنت تركيا اعترافها بالدولة اليهودية في عام 1949.

بدأ شعور الغرب بالقلق يتنامى ويتجسد من التقارب التركي مع الجانبين العربي والإيراني، خصوصاً حينما شنت أنقرة حملة قوية ضد إسرائيل، مطالبة بتحقيق دولي في المجزرة البشعة التي ارتكبتها في حق "قافلة الحرية" المسالمة، في المياه الدولية، قبل أسبوعين، وحينما صوتت في مجلس الأمن ضد قرار فرض عقوبات على إيران، بسبب أنشطتها النووية التي يرتاب الغرب في مقاصدها.

قالها وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس صريحة، يوم الأربعاء الفائت، في لندن: "أعتقد أن تركيا دفعت دفعا نحو الشرق من جانب البعض في أوروبا الذين يرفضون إعطاءها نوعا من العلاقة الأساسية مع الغرب... يجب العمل على تعزيز علاقات الغرب بأنقرة".

وبعدها بيوم واحد، أكد وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني المعنى ذاته، حين قال لصحيفة ألمانية: "الاتحاد الأوروبي ارتكب أخطاء في حق تركيا، ودفعها إلى الشرق بدلاً من أين يجذبها إلينا... إذا أعطينا الأتراك انطباعاً بأننا لا نريدهم بيننا، فإنهم سيولون أنظارهم نحو الشرق".

لقد أسمعت تركيا صوتها واضحاً للغرب، الذي بدوره اختبر بأسها وصلابتها وعاين احتجاجها، ورغم أن أردوغان كان حاداً حين استخدم عبارة "دعاية قذرة"، لوصف الحديث عن أن بلاده "تدير ظهرها إلى الغرب لأنه حال دون ضمها إلى الاتحاد الأوروبي، وأن علاقات أنقرة بالشرق إنما تأتي للرد على هذا الموقف الغربي السلبي"، فإن الغرب يبدو غير قادر على تصديق النفي التركي.

حالت قوى في أوروبا دون دمج الأتراك في الاتحاد، مخافة أن "يبدل طبيعة الجسم الثقافي والاجتماعي في القارة ذات الأغلبية المسيحية والتقاليد الغربية"، ولذلك فلم يُسمح لهم سوى بفتح 12 ملفا من أصل 35 ملفا يجب التعاطي معها قبل قبول العضوية في الاتحاد.

تقول الحكمة التركية أيضاً إن "البجع ينتمي إلى أسرة البط، ولكنه يظل في النهاية بجعاً"، ولذلك فإن أحداً في نخبة الحكم في أنقرة لا يجادل لحظة في أهمية المضي قدماً نحو تمهيد الطريق للالتحاق بركب الاتحاد الأوروبي، باعتباره خياراً استراتيجياً، لدولة ترى أن أفقها بسعة 360 درجة، كما يقول عرابها الدبلوماسي أوغلو.

سمع الغرب صوت تركيا، وعاين احتجاجها، ودرس قدرتها على تصليب الموقف الإيراني من جهة، واستنزاف إسرائيل من جهة أخرى، ورفد الموقف العربي بأسباب للصمود وخفض سقف تنازلاته من جهة ثالثة. وقد بدأ يراجع نفسه، ويندم، ويدعوها على استحياء.

إذا استفاد العرب من الزخم الذي تمنحه تركيا اليوم لقضيتهم المركزية، ومن عوائد التعاون الإيجابي مع تلك الدولة المهمة، باعتباره مكسباً تكتيكياً في معركة طويلة، فذلك مما ستحمد عقباه، لكن إذا علقوا معظم الآمال على "الفارس التركي"، وواصلوا الخصم من سلطتهم الاستراتيجية على قضاياهم، فسيعرفون المزيد من الندم.

وكما بدأنا بحكمة تركية، ننهي بمثلها، وهي تقول هذه المرة: "الحصان يجري، والبغلة ترفس، وبين الاثنين يموت الحمار".

* كاتب مصري

back to top