إن اختيار هيرمان فان رومبوي رئيساً لمجلس وزراء الاتحاد الأوروبي، والليدي كاثرين أشتون رئيسة لشؤون السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، ليؤكد بلا أدنى شك على المدى الذي بلغته البلدان الأعضاء من السيطرة على شؤون الاتحاد الأوروبي، فهي تدير مؤسساته لتحقيق مصالحها الخاصة، والآن لم يعد الاتحاد الأوروبي بمنزلة دولة عظمى تسير بشجاعة نحو فجر جديد مشرق.
ولن يضطر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى خوض المنافسة ضد أحد نجوم بروكسل الخارقة من أجل الفوز بالأضواء العالمية، ولن يشكك أحد في قدرة ألمانيا على الخروج من انطوائها المتزايد، بعد أن لم تعد مضطرة إلى التدليل على مؤهلاتها الديمقراطية في مرحلة ما بعد الحرب من خلال تبني القضية الأوروبية عند كل منعطف. وتستطيع بريطانيا الآن أن تستريح لأن دورها العالمي سيظل دوراً مرموقاً في نظر البيت الأبيض.إن أفضل ما قد يترتب على تعيين زعيمين أوروبيين جديدين بعيدين عن الأضواء هو أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى إدارة أفضل وأكثر تماسكاً لأعمال الاتحاد الأوروبي، وسيكون فان رومبوي قادراً على تقديم وجهة نظر أطول أمداً مقارنة بتلك التي توفرها أي رئاسة وطنية تدوم لستة أشهر. أما السيدة أشتون فلابد أن تكون قادرة على ربط أذرع السياسة الأوروبية ومواردها في السياسات الخارجية معاً.ولكن ليس من الواضح حتى الآن، ورغم ما نصت عليه معاهدة لشبونة، ما إذا كانت أشتون تتمتع بسيطرة كاملة على الميزانية الخارجية للاتحاد الأوروبي أو على التعيينات في الأجهزة الدبلوماسية الجديدة. إنها في واقع الأمر تتعامل مع مهمة صعبة، ومن غير المستبعد أن يدفعها بانتظام رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروسو، الذي كان الرابح الأكبر في غمار تقسيم الوظائف، ولكن وزراء الخارجية سيشعرون بارتياب عميق إذا رأوا أن المفوضية تحاول الاستيلاء على مهام السياسة الخارجية.تشير الخبرات السابقة إلى خمسة مبادئ توجيهية لابد من الالتزام بها إن كنا راغبين في وجود أوروبي أكثر فعالية على الساحة العالمية، كلما أصبحت السياسة الخارجية والأمنية على رأس الأجندة الأوروبية.أولاً، يتعين علينا أن نؤمن بأن ما يناسب المصالح الأوروبية على النحو الأمثل قد يكون أيضاً في مصلحة علاقتنا مع أقرب حلفائنا، الولايات المتحدة. فينبغي لنا، على سبيل المثال، أن نكون راغبين في منع التعاطي العسكري مع الطاقة النووية في إيران بسبب مخاوفنا كأوروبيين، وليس لأننا حلفاء للولايات المتحدة.ثانياً، لا ينبغي لنا أن نسمح لحديثنا عن دورنا كشركاء دوليين لأميركا في السلام بالابتعاد كثيراً عن الواقع. صحيح أننا نميل في هذه الأيام إلى مغازلة السلام والابتعاد عن الحرب، وهو الأمر الذي ينبغي أن يجعل بقية بلدان العالم تشعر بالامتنان الشديد، ولكننا نبالغ في هذا الأمر بعض الشيء.فالأمر ليس أن أوروبا لا تنفق ما يكفي على القوة الصارمة فحسب، بل إن المشكلة هي أن ما تنفقه بالفعل- حوالي 200 مليار يورو- ينفق على نحو بالغ الرداءة. إن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى تبني سياسة مشتركة جيدة التنسيق في تدبير وشراء لوازم الدفاع، مثل الطائرات المروحية، وطائرات النقل، ومعدات الاتصال الميدانية، وطائرات الاستطلاع من دون طيار، والتي تشكل أهمية بالغة للعمليات في القرن الحادي والعشرين.ولأسباب تتعلق بالتاريخ، والأخلاق، والأمن، فلابد أن ننظر إلى إفريقيا باعتبارها مسؤولية أوروبية خاصة، ويتعين علينا أن نستغل معوناتنا، ودبلوماسيتنا، وقدراتنا في حفظ السلام في دعم التنمية المستدامة، والحكم الرشيد، والتعاون الإقليمي في القارة.ثالثاً، بينما كان لأوروبا سياسة داخلية جادة، فإن تأسيس سياسة خارجية أكثر جدية سيكون أكثر سهولة، وأفضل مثال على ذلك هو سياسة الطاقة وروسيا، التي تريد إنشاء مجال نفوذ حول حدودها.إن التعامل مع روسيا ربما كان بمنزلة الفشل الأعظم في المحاولات الرامية إلى صياغة السياسة الخارجية الأوروبية، فلصياغة مثل هذه السياسة يتعين علينا أن نضع سياسة مشتركة في التعامل مع الطاقة.ويتعين على السيدة أشتون أن تكون صارمة في التعامل مع روسيا ومع البلدان الأعضاء التي تُخضِع المصلحة الأوروبية للمصالح التجارية لشركاتها الوطنية العاملة في مجال الطاقة.رابعاً، لابد أن ندرك أن السياسة الخارجية الأوروبية تكون أكثر فعالية كلما كانت أقرب إلى الديار، فنحن نكون في أفضل أحوالنا في جيرتنا القريبة، وفي أسوأ أحوالنا أيضاً. ولقد تجلى النجاح الأكبر الذي حققته السياسة الخارجية الأوروبية في توسعة الاتحاد الأوروبي، فقد أدت التوسعة إلى تشجيع ودعم تغيير الأنظمة من دون استخدام السلاح، وبالتالي جلب الاستقرار للقارة الأوروبية.والمهمة لم تكتمل بعد، إذ إن آفاق الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي تكمن في قلب سياسة الاتحاد الأوروبي في منطقة غرب البلقان، حيث بدأنا في إظهار (على سبيل المثال في البوسنة والهرسك) تراجع خطير عن تطبيق شروط صارمة، فنحن ملتزمون «بالوظيفة الأوروبية» لأوكرانيا، ولكننا لسنا ملتزمون بعضويتها في الاتحاد الأوروبي، ولنلحظ الفارق هنا!لقد قطعنا على أنفسنا تعهداً منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان بالتفاوض على عضوية تركيا بمجرد تحول ذلك البلد إلى ديمقراطية كاملة تدير اقتصاداً مفتوحاً وتحترم حقوق الإنسان وحكم القانون، ولا شك أن خذلان تركيا سيكون بمنزلة القرار باستبعاد أنفسنا من أي مشاركة جادة في الشؤون العالمية، فإننا بهذا نرفض دولة تتمتع بقوة إقليمية بالغة الأهمية، وتشارك في عضوية حلف شمال الأطلنطي، وتشكل مركزاً حيوياً للطاقة، وسنتهم عن حق بحرق الجسور مع العالم الإسلامي بدلاً من بنائها، ومن المؤسف أن فان رومبوي، الكاتب والشاعر، قد تحدث ضد عضوية تركيا علناً وبعبارات أشد فظاظة مما كان المرء ليتوقع من كاتب وشاعر رقيق مهذب. ويتلخص آخر خطوطي التوجيهية فيما يتصل بالسياسة في أن أوروبا ليست- ولن تصبح- قوة عظمى أو دولة خارقة، فنحن على العكس من الولايات المتحدة لا نشكل أهمية في كل مكان من العالم، ونحن لا نضع سياسة خاصة في التعامل مع كل مشكلة وفي كل مكان، ولكن حينما تكون المشكلة قريبة من الديار، لذا يتعين علينا أن نستعين بسياسة تتألف مما هو أكثر من الانتظار ثم الموافقة على كل ما تقرره أميركا، كما يحدث في الشرق الأوسط على سبيل المثال. إن حالة «اللاحرب واللاسلم» في الشرق الأوسط ليست قابلة للاستمرار؛ فضلاً عن ذلك فإن حل الدولة الواحدة لم يعد ممكناً أو مرغوباً. ماذا نستطيع أن نفعل إذن لتحريك الأمور إلى الأمام في المنطقة، حيث عادت أميركا مرة أخرى إلى وضعها كشريك، ولكنها لم تعد تحظى بما كانت تحظى به من احترام سابقاً، وحيث لا تتمتع أوروبا بوضع الشريك ولا تحظى بالاحترام؟ على أقل تقدير، نستطيع أن نضع خطوطاً واضحة لسياسة خاصة بنا، بداية ببذل الجهود من أجل إنهاء الانقسامات في فلسطين بين الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية. ولكن هل من المهم أن تسير أوروبا على نفس خطى الولايات المتحدة في المنطقة؟ بصراحة، كلا.قبل أسبوعين، حين وجد أوباما نفسه مضطراً للاختيار بين حضور اجتماع رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) أو حضور الاحتفالات في برلين بالذكرى السنوية العشرين لسقوط سور برلين، اختار الذهاب إلى آسيا. ولكن هل تفعل أوروبا ما يكفي لحمله على تغيير رأيه في المرة القادمة حيث يجد نفسه مضطراً إلى مثل هذا الاختيار؟ كما تشير الأمور الآن فإننا معرضون لخطر تحول أوروبا إلى كيان غير ذي صلة حين يتعلق الأمر بالسياسة العالمية، والاكتفاء بمكانتها باعتبارها اتحاداً جمركياً ناجحاً يتبنى سياسة خارجية حيادية انعزالية، وتحكمه مجموعة من الزعامات المنقسمة المحرومة من أي رؤية مشتركة.* كريس باتن | Chris Patten ، آخر حاكم بريطاني لهونغ كونغ والرئيس الحالي لجامعة أكسفورد.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».
مقالات
قيادات أوروبية بلا رؤية
26-11-2009