لقد أوضحت الأزمة المالية العالمية الحالية الضغوط الهائلة التي تخضع لها سياسة المنافسة على جانبي المحيط الأطلسي. لقد تعرضت سياسة المنافسة بصورة خاصة لنكسة بسبب تدابير الإعانات المشوهة للوسطاء الماليين، فضلاً عن تعليق قواعد الاندماج لإنقاذ المؤسسات. والواقع أن تقديم رؤوس الأموال العامة، وغير ذلك من الإعانات، جعل أرض الملعب غير متساوية، حيث أصبحت المؤسسات الأضعف أفضل تمويلاً من المؤسسات القوية.
وهذا أمر بالغ الأهمية في القطاع المصرفي، حيث التصورات حول سلامة أي مؤسسة تشكل أهمية جوهرية بالنسبة لقدرتها على المنافسة. على سبيل المثال، استولت مؤسسة Lloyds TSB على مؤسسة HBOS، وهي المؤسسة البريطانية الأضخم في مجال الرهن العقاري، وذلك في عملية اندماج عارضها مكتب التجارة العادلة في بريطانيا، في حين مُنِعَت نفس المؤسسة من الاستيلاء على بنك Abbey National bank في عام 2001. وفي الولايات المتحدة تعززت الأعمال المصرفية الاستثمارية بفضل الاستيلاء القسري على Bear Stearns بواسطة JP Morgan وعلى Merrill Lynch بواسطة Bank of America. وكانت النتيجة منافسة ضعيفة للغاية بين اللاعبين المتبقين. كانت سياسة المنافسة مجهزة للتعامل مع الأزمات الفردية، ولكن الأزمة الشاملة كادت تقصم ظهرها. والواقع أن الإعانات الضخمة، ليس فقط في القطاع المصرفي، بل في غيره من القطاعات أيضاً- وفي مقدمتها قطاع شركات صناعة السيارات- تعمل على إبقاء القائمين الحاليين على الأمر في أماكنهم رغم عدم كفاءتهم، والحد من نمو الشركات التي تتسم بالكفاءة، بل وربما ما هو أسوأ من ذلك: منع الشركات الجديدة من دخول السوق. وفي الاتحاد الأوروبي، تناور الحكومات الوطنية في سباق لتوفير الإعانات من أجل تحويل تكاليف تكييف القدرات في مجال صناعة السيارات إلى بلدان مجاورة، كما يتضح لنا من حالة شركة "أوبل". ولكن الدمج بهدف الحد من الفائض المتصور في الطاقة الإنتاجية في القطاع المصرفي وقطاع صناعة السيارات من شأنه أن يخلق هياكل سوقية مضادة للمنافسة وطويلة الأجل. ومادامت هذه الهياكل قادرة على إبقاء الداخلين الجدد خارج اللعبة، فسيتم قمع انضباط السوق وسيعاني المستهلك. والواقع أن حجم وقوة الشركات المالية الضخمة وشركات تصنيع السيارات وغير ذلك من الشركات هي ما تسبب على وجه التحديد في مواءمة نطاق التنظيمات والتدخلات الحكومية. والواقع أن تأثير جهود الضغط التي يبذلها القطاع المصرفي الاستثماري في الولايات المتحدة على استرخاء المعايير التحوطية التي أرستها التنظيمات المالية، من الأمور المعترف بها على نطاق واسع باعتبارها أحد العوامل التي أدت إلى الأزمة الحالية. وقد يزعم العديد من الناس أن الصناعة كانت ذات تأثير ملموس على التدابير الرامية إلى حل الأزمة ذاتها. ويتضح أيضاً نفوذ شركات تصنيع السيارات الثلاث الكبرى في الولايات المتحدة، على الرغم من سجلها الهزيل نسبياً فيما يتصل بالكفاءة وتقديم القيمة الحقيقة للمستهلكين. ومن اللافت للنظر، في ظل عدم استجابة شركة "جنرال موتورز" لطلبات المستهلكين، تلك المناقشة الدائرة الآن بشأن ما إذا كان من الواجب إرغام هذه الشركات على إنتاج سيارات أكثر كفاءة في استهلاك الوقود. إذا تمكنت الشركات الضخمة من تمهيد أرض الملعب لمصلحتها من خلال النفوذ الذي تفرضه على العملية السياسية والتنظيمات- وبالتالي منع القادمين الجدد من الدخول وتحويل التكاليف إلى المجتمع- فسيعقب ذلك منظور جديد بالكامل لسياسة المنافسة. ولعل ذلك المنظور قد لا يكون جديداً تماماً. لقد بدأت سياسة مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة في نهاية القرن التاسع عشر بفضل الشكوك العميقة إزاء الشركات الضخمة، وذلك بسبب تركز القوة الذي يمليه التوسع في الحجم. وفي وقت لاحق أفسح هذا الرأي الشعوبي إلى حد ما المجال أمام نظرة لمكافحة الاحتكار كانت تركز على الكفاءة. فكان المسعى الأصلي يتلخص في التصدي لقوى السوق في قطاع بعينه، ليس لحجمه في حد ذاته، وذلك لأن قوى السوق تعمل على ارتفاع الأسعار، بل ربما الحد من التنوع والإبداع. وفي أوروبا أيضاً كانت الغلبة في سياسة المنافسة "لمنظور الكفاءة". بيد أن الأزمة الحالية ربما تفرض تساؤلاً حول ما إذا كانت النظرة الشعوبية لمكافحة الاحتكار- الحد من حجم الشركات بسبب النفوذ المفرط الذي قد تكتسبه وتمارسه- لها وجاهتها. والقضية هنا ليست فقط أن الشركات التي تشكل أهمية حيوية بالنسبة للنظام بالكامل قد تبتز المجتمع، بل إن الشركات البالغة الضخامة من الممكن أن تكيف أرض الملعب على النحو الذي يدعم مصالحها على حساب المجتمع. أما المقولة التي تزعم أن ما يحقق مصالح شركة "جنرال موتورز" على سبيل المثال يحقق المصلحة العامة للولايات المتحدة بالضرورة فهي تبدو ضعيفة إلى حد كبير اليوم، هذا إن كانت سليمة في أي وقت مضى على الإطلاق. ولكن التعرف على المشكلة أمر مختلف عن التفكير في التدابير اللازمة لمعالجتها. فمن الممكن إرغام الشركات على استيعاب التكاليف التي تفرضها على المجتمع بالاستعانة بالتدابير التنظيمية المناسبة (على سبيل المثال، فرض متطلبات رأس المال مع رسوم شاملة على المؤسسات المالية)، ولكن ليس من الواضح تماماً كيف نتعامل مع النفوذ "المفرط" الذي يأتي مصاحباً للحجم. إن الحد من حجم الشركات بهدف ضبط تركز القوة يشكل أداة فظة للغاية- فهي الأداة التي تسلط الضوء على فشل الضوابط الأخرى في ظل العملية الديمقراطية والتي تهدف إلى ضمان عدم تمكين جماعات الضغط القوية من فرض التنظيمات التي لا تتماشى مع مصلحة المجتمع. ولكن إذا لم نضع الضوابط والتوازنات الفعّالة في مكانها السليم، فقد تعود مكافحة الاحتكار على نمط القرن التاسع عشر لكي تصبح الموضة السائدة عاجلاً وليس آجلاً.* خافيير فايفس، أستاذ الاقتصاد والتمويل بكلية IESE للتجارة."بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"
مقالات
أهي ثورة مضادة لمكافحة الاحتكار؟
17-01-2010