من يفرك الصدا

نشر في 01-10-2009
آخر تحديث 01-10-2009 | 00:00
 فوزي كريم كتب لي صديق يستحثني على الحوار قائلاً: «إن أفلاطون يرى التذكّر قصارى الفعل الإنساني في الاكتشاف، والشاعرُ هنا يكون أعظمَ متذكّر. ولكن بورخس يرى أن شعورَه بالشيء الذي يكتبه هو أنه موجود سلفاً، ولذلك لا يشعرُ بأنه يكتشف شيئاً، فالعثورُ على الشيء المخبوء ليس اكتشافاً، إنها إماطةُ لثام». أجبتُه:

«يرى أفلاطون الشاعرَ من زاوية نظر غير مشجعة. و»التذكر» الذي تشير إليه قد يُطعّم القصيدة، ولكنه لا يُنجبها. الرأيُ الذي يمكن التوقف عنده، هو رأي بورخس بالتأكيد. أتوقف عنده لأنه يتوافق وما أرى. يتوافق لأنه لا يطمئن، مثلي، إلى فكرة «الجديد» الشائعة. وهو لا عهدَ له بمدى سطحية الفكرة في ثقافتنا الأدبية.

الشاعر يفرك الصدأ عن «الشيء المخبوء» القائم أبداً، شيء القصيدة المخبوء. كلُّ شاعر له لمستُه الخاصة النادرة في فرْكِ الصدأ. وفرْكُ الصدأ هو الذي يميّز شاعراً عن شاعر. ويميز فاركَ الصدأ نفسَه، إذا ما كان شاعراً حقيقياً أو لا.

الشاعرُ الحقيقي يُعيد كتابةَ القصيدة التي سبقته في الزمان. «البكوريّ» في مسعاه الشعري لابتداع الجديد ليس شاعراً حقيقياً. قد يكون مُكتشفاً، أو رائداً. ولكنه ليس شاعراً. وكم من شاعرٍ صرف عمرَه في تعبيد طريقٍ، لمْ يمشِ عليها هو خطوةً واحدة. هناك عباقرةٌ في تجسيد نظريتهم الشعرية في قصيدة. ولكنهم ليسوا شعراء جيدين. وقد يصحّ هذا على عددٍ من الشعراء العربِ الكبار. الشاعرُ قد يكون أبلهَ أو أحمقَ، ولكنه يملك موهبةَ فركِ الصدأ برشاقة آلهة.

إعادةُ كتابة «القصيدة» لا تمنحُ رضاً للشاعر. هناك إحساسٌ دائمٌ بأن شاعراً آخر سيُكمل ما كتبت. هناك فُسحة للتطفّل. روحُ المشاركة هذه توسّع الأفق. والتماس مع الآخر يُدفئ تيار الزمان البارد. واحتضانُ الماضي يُثقل القصيدةَ بالحكمة، حتى لو كانت قصيدة عابثة. الخبرةُ الشعريةُ، بهذا المعنى، ليست أفقيةً، بل خبرةٌ عمودية. تبدو ثابتة في الزمان المتحرّك الذي يسيّره التقويم. لأنها، في حقيقتها، لا تُعنى به. خبرتُها لها زمنُها الداخليّ الخاص. زمن «الشيء المخبوء» الذي لا يخضعُ لتقويم.

حين نقولُ إن القصيدةَ تبدأُ من الإيقاع، فلأن الإيقاعَ بدائيّ. وهذا البدائيُّ مُحفّز لـ»الشيء المخبوء» لأن يتجسّدَ ثانيةً، بكلّ طبقاتِ صدَئه. كم تبدو اللغةُ عاجزةً عن تمثّله! كم يبدو الشاعرُ متفانياً من أجل أنْ يوفّقَ في فرك الصدأ عنه! شعراءُ ونقادُ الصنعة الذهنية يحتفون بفكرةِ أن كلمات القصيدة لا تشير إلى معنى خارج القصيدة. إنهم يفكرون وفق قاعدة الكلمة: معناها. ولذا يطورون هذا الإنكار إلى أن الكلمة لا تُشير، وتتمرأى في ذاتها. مع أن الكلمةَ لا تشير بالضرورة إلى معنى خارج القصيدة، بل تشير إلى معنى في الكلمات التي تليها. الشاعر أوكتافيو باث في مقالة عن الشعر يوضح ما معناه: أن المعنى لا يقيم خارج القصيدة بل داخلها، لا فيما تقول الكلمات، بل فيما تقوله لبعضها البعض.

إن فكرةَ القصيدة البكورية، الجديدة، فرصةٌ للإفلات من وطأةِ الشروط العتيقة. كثيرون يعلنون ذلك باعتزاز. في حين يحتفي الشاعرُ الحقيقي بهذه الشروط العتيقة، التي تعزز لديه الإحساس بأنه على تماس مع كيانه البدائي، مع دفْقِ الحركة والنمو في هذا الكيان. الإحساس بأنه يتواصل.

أمرٌ آخر أحبّ أن أُلفتَ نظرك إليه. ولعله أكثرُ مزايا إماطة اللثام عن «المخبوء» أهميةً بالنسبة لي على الأقل. إن إحساسَ الشاعر بأنه موصولٌ بما هو خبيء، وما هو صدئ، ودفين، يمنحه بعداً ما ورائياً، بُعداً ميتافيزيقياً لا غنى للشعر دونه. الشعر العربي، قديمُه وحديثه، بالغُ الفقر في هذا الجانب. ولقد ظلّ متمنعاً بالرغم من تأثيرات التصوّفِ التي جاءته من عرفانيات الشرق البعيد. الشاعرُ الحديث ظلّ يتقاسمُ قوتَ شعره مع التاريخ، لا يتجاوزه. ومع سحر اللغة، التي جعلها القرآن مقدسة، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً.

المعنيُّ بالابتكار وتوليد الجديد، يفقدُ مع الأيام حاسّةَ المحدّق في ما وراء الظاهر. هذا إذا ما كان يملكها أصلاً!» 

back to top