يُروى أن الخليفة المأمون كان جالسا مع أحد خاصته، وكان ينادي بين الفينة والأخرى أحد خدمه لقضاء أمر ما أو للاستفسار عن شيء ما، وفي إحدى المرات نادى الخادم قائلا: «ياغلام...»

Ad

فلم يجبه أحد، فكرر النداء... فجاء الخادم غاضبا وقال:

«أفما ينبغي لهذا الغلام أن يأكل ويشرب... كلما خرجت من عندك صحت يا غلام... ياغلام»!

فأطرق الخليفة برأسه قليلا... ثم أمره بالانصراف.

فتعجب الرجل الذي كان بصحبة الخليفة أشد العجب، ولم يخفِ استغرابه عن الخليفة، وقال له بما معناه: كيف وأنت أمير المؤمنين تسمح لخادم من خدمك أن يرفع صوته عليك ويخاطبك بهذه الصلافة؟! فردّ المأمون قائلا:

«إن الرجل إذا حسُنت أخلاقه ساءت أخلاق خَدَمه، وإذا ساءت أخلاقه حسُنت أخلاق خدَمه، وإنّا والله لا نستطيع أن نُسيء أخلاقنا لتحسُن أخلاق خدمنا».

أعتقد أن كلام المأمون لا ينطبق فقط على الخدم، وإنما أصبح ينطبق في وقتنا الحالي على كثير من الناس على اختلاف طبقاتهم، فتتساءل وأنت ترى كثيرا منهم يوشّي سجادة الصبر بشوك الصبّار، ويدلق على وجه السماحة ماء النار، ويسدّ جوع الطيبة بخبز الوقاحة الساخن، تتساءل:

هل ما زال الحُلم سيد الأخلاق؟! أم انه بضاعة العاجز الضعيف؟!

وما بال الدوائر قد دارت على هذا السيد و»تمرمط» تحت أحذية الناس القذرة؟!

ما بال هذا «السيد» الوقور قد تناتف لحيته الجهلاء وأطفال الحي، وسخر من وقاره المارّة؟!

ما الذي جرى لهذا «السيد» ولأفراد قبيلته الأخلاقية حتى أصبحوا أشبه بالشحاذين الذين ينتظرون بصيص عطف وشفقة في آخر النفق؟! وكالغجر المشردين الذين ليس لهم مأوى سوى خارج المدينة وبعيدا عنها؟! وويل لمن يؤوي فردا من أفراد هذه القبيلة،و يُحسن معاملته، ويُكرم قدره!

أي شخص يجير فردا من قبيلة الأخلاق يُحتقر ويُهان من قِبل الناس، فما بالك لو أجار سيدها.

وعلى ذكر السيد، يخطر في بالي الآن ما قاله «السيد» وأعني أبوبكر سالم، حين غنى متعجبا:

«مشكله فالناس...

إن راضيتهم عادوك

وإن عاديتهم طلبوا رضاك»!

هي إذاً ذات الحقيقة التي أتعبت المأمون مع الخدم!

أصبح لافتا بيننا أن تُسيء الناس معاملة من يحسن معاملتهم، وأن تُذل من يعزّهم، وتهين من يحترمهم، وتبخس قَدْر من يعلي قَدْرَهم، والعكس صحيح... فإذا أردت أن يحترمك الناس فما عليك سوى أن تمارس إذلالهم واحتقارهم قدر استطاعتك!

الحلم سيد الأخلاق هذا، لم يعد أحد يخشى غضبه، فلقد أمن الناس عقابه فأساؤا الأدب، وها هي هيبته تباع في الأزقة الخلفية بأبخس الأثمان!

وقد قال الشاعر قديما:

إن أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

فهل هو لؤم قد تفشى بيننا بلا خجل؟! أم هي «مازوسية» ضربت أطنابها في وجدان معظمنا؟!

فإذا كان الناس قد أصبحوا كخدم المأمون، فمن أين نأتي بحلم المأمون؟!

من أين نأتي بهذا السمو؟!

كيف يمكننا ألّا نسيء أخلاقنا لتحسُن أخلاق الغير؟!

كيف يمكننا فعل ذلك مع معظم الناس وفي معظم الوقت؟!