في كتاب عادل حمودة عن «حياة محمد حسنين هيكل» ورد أن الأخير قال لجمال عبدالناصر، بعد النكسة، إنه لابد أن يرى الناسَ ويحاورهم وأن يسمع لأعداد كبيرة ومتنوعة منهم، لكي لا تضيق الرؤية والمعرفة، فتقفز مراكز القوى مسيطرة وضاغطة.

Ad

واقترح هيكل على عبدالناصر أن يدعو، من وقت إلى آخر، عدة أشخاص... عشرة مثلاً، في بيته بعيداً عن رسميات العمل، ويتكلم معهم بلا قيود.

ويقول هيكل، إن عبدالناصر نفّذ الاقتراح مرتين، لكن... في المرتين «لم نجد مَن تكلّم»! ويُفسر هيكل صمت الناس في مواجهة عبدالناصر بـ»الكاريزما» التي يتمتع بها، وما تفرضه من هيبة تعقد الألسنة.

وفي رأيي أن الهيبة وحدها لا تفعل كل هذا، خصوصاً إذا كانت الدعوة إلى الكلام موجهة من المُهاب نفسه. والتفسير الأقرب للواقع هو الرهبة المستقرة والرعب المؤسَّس. هو الخوف الحقيقي المتجذّر الذي يُصبح، مع الوقت، طبيعة تكاد تبتلع طبيعة المرء الأصلية، والذي لا يستطيع المرء بعد إدمانه أمداً طويلاً، أن يطرحه دفعةً واحدة لمجرد أن يقال له «لا تخف».

ولا شك أن الأستاذ هيكل يتذكر جيداً أنه هو نفسه قد تعرّض لمحاولة اغتيال، عند أول كلمة قرص بها أذن مراكز القوى!

إن جسور المصارحة إذا تقطعت بين الحاكم والمحكوم، لا يمكن بناؤها بقرار فجائي. إنها تحتاج إلى وقت طويل من العمل والتجربة لكي تثبت دعائمها وتستقر.

يحكي الكثيرون ممن قضوا أوقاتاً طويلة في الزنزانات الضيقة، أنهم كانوا يحتاجون إلى كثير من الوقت والثقة بالنفس لتذكير أقدامهم بالشكل الصحيح للوقوف، أو تدريبها على عادة المشي التي بهتت ذكراها في أذهانهم.

مثل هذا ما رواه أبناء الجنرال «أوفقير» الذين دخلوا المعتقل أطفالاً وغادروه شباناً ناضجين. ومثله أيضاً ما أكده الناجون من معتقل «تزمامارت» المغربي الشهير.

إن الرضوخ للرأي الواحد، وفقدان حرية إبداء الرأي، يتحوّلان، مع الزمن، إلى نوع من الإدمان الذي لا يمكن علاجه بسهولة، حتى لو كانت لدى صاحبه رغبة جامحة في التخلص منه... مثل نبتة حُجِبت لمدة طويلة بغطاء ثقيل أثناء نموها، فواصلت النمو إلى الأسفل. إنها تحتاج إلى وقت أطول، بعد إزالة الغطاء، لكي تستجيب إلى طبيعتها الكامنة في الانطلاق عالياً نحو النور.

وفي حياتنا، شهدنا في الأيام التالية لسقوط عدد من الدكتاتوريات المعمرة، كيف أن الناس، برغم مشاعر الفرح العميقة والصادقة، وجدوا أنفسهم في ما يُشبه الفراغ والحيرة، في لحظة حرجة بين ماضٍ مديد معروف من الكبت والخنق... ومستقبل مجهول من حرية التنفس، إنهم فرحون، بلا أدنى ريب، لكنهم أيضاً في حيرة غريبة أمام واقعهم الجديد، وكأن رئاتهم قد باتت عاجزة عن التعامل مع كل هذه الكميات الكبيرة من الهواء الطلق.

فهم في مثل هذه الحالة منذورون، ويا للمفارقة، لتجربة الاختناق بالهواء!

والأدهى من ذلك أن فرحة بعض الشعوب المقموعة، بزوال جلاديها، تتحوّل بشكل غرائبي إلى البكاء عليهم، مثلما حدث في جمهورية الدومينيكان عند مقتل الدكتاتور «رافائيل تروخييو» في أواخر الخمسينيات!

وهناك صورة رائعة ومؤثرة لتجربة الاختناق بالهواء تضمنتها رواية «تحرير شاوشانغ» للكاتب الأميركي «ستيفن كنغ»... إذ نرى سجيناً عجوزاً أمضى ما يقرب من أربعين عاماً في معتقل «شاوشانغ» الرهيب، يبادر بشكل مفاجئ إلى تكتيف أحد زملائه المقربين، ويضع السكين فوق رقبته مهدداً بذبحه.

ونعلم أنه فعل ذلك لأن قرار الإفراج عنه قد صدر، وأن لا حيلة له في إلغائه إلاّ بارتكاب جريمة جديدة... وذلك لأنه لا يريد أن يكون مطلق السراح. فمع تراكم الأعوام لم يعد هذا العجوز البائس يرى أيّ معنى للحياة خارج أسوار المعتقل، فهناك وراء الأسوار بالنسبة إليه لا شيء سوى الغربة المخيفة!

وثمة مقاربة أخرى لمثل هذا الأمر، نجدها في قصة «إذا لمست قلبي» للكاتبة التشيلية «إيزابيل أللندي»، وهي قصة تؤكد الكاتبة أنها حقيقية وأن لا فضل لها فيها سوى صياغتها أدبياً: القاتل المحترف «أماديو بيرالتا» يقع فجأة في غرام الصبية «هورتينسيا» التي لم تكن تتجاوز الخامسة عشرة، فيغتصبها ويخفيها في قبو معصرة تملكها أسرته، وتظل محبوسة هناك طوال حياتها، حيث وجد القاتل امرأة هندية متكتّمة لتقوم بمهمة ملء الدنان بالماء، وتنظيف الزنزانة، وإلقاء بعض الطعام للسجينة.

وبعد سبع وأربعين سنة، حين أخرجت «هورتينسيا» من القبو الذي كانت مدفونة فيه وهي حية، لم تكن هي نفسها تعرف ما اسمها، ولا كيف وصلت إلى ذلك المكان؟

وعندما سأل الصحافيون تلك الهندية السجّانة عما إذا كانت تشعر بالأسى على هذه المرأة البائسة، قالت إنها تشعر بالحزن عليها، لأنها ظنت أن لدى تلك المرأة ميلاً إلى العبودية وأنها سعيدة بذلك!

ولم تحاول «هورتينسيا» تبديل فكرة سجانتها عنها، فهي لم تُبدِ أيّ نوع من الفضول للعالم الخارجي مطلقاً، ولم تحاول الخروج لاستنشاق الهواء النقي، ولم يكن يبدو عليها الضجر كذلك، فقد كان ذهنها متوقفاً عند «لحظة الطفولة»، والواقع أنها قد تحولت إلى مخلوقة «تحت أرضية»!

إلهنا العظيم... قد تكون بالفعل، تجربة صادمة وغريبة ومحيرة، لكننا نشتاق بل نتعطّش إليها دائماً.

إلهنا العظيم... عرّضنا كل عام لتجربة الاختناق بالهواء!

* شاعر عراقي