قراءة 
في الشر

نشر في 21-01-2010
آخر تحديث 21-01-2010 | 00:00
 فوزي كريم في الطبيعة شرٌّ كثيرٌ، وشرٌّ كثيرٌ في الكائن الإنساني، ولأن عتمةَ الشَّر تفوقُ في التأثير إضاءةَ الخير، فكمْ يغفل أحدنا الخيرَ الكثير في الطبيعة والإنسان.

قبل سنوات ست قتلت هِزةُ البحر في تسونامي قرابة ربع مليون إنسان، طمرتهم الأمواج والوحل في وقت خاطف، وفي وقت خاطف تقتل هِزة الأرض في هايتي مئتي ألف آخرين. الشَّرُ في الطبيعة لم يكُن وحده هذه المرة، فله حليفٌ في الشَّر الإنساني، لأن هذه الجزيرة البائسة في الموارد، بائسة في تاريخها الحديث، الذي عبث به الساسةُ رغم فقره، منذ عهد الاستقلال عام 1804.

في غمرة قراءة شكسبير توقفت عند «الملك لير»، قرأتُ كُتيِّب الروائي الروسي تولستوي في رفض شكسبير جملةً، والملك لير خاصة، وقرأتُ المقالةَ البارعة عن الموضوع للإنكليزي جورج أُرويل «لير، تولستوي، والأحمق»، ثم توقفت عند «عطيل» أيضاً، وقرأت معه كتاباً صدر عن أُكسفورد بعنوان «تبريرات الشر: قضية إياغو» The Apologetics of Evil: The Case of Iago، لريتشارد راتش، ثم استعدت لمزيد من الإضاءة الموقف المتشائم للفيلسوف الألماني شوبنهاور. إحاطة ضوئية لمسرح الشَّر في الطبيعة والإنسان، تكشف عن التفاصيل والدقائق، لكنها لا تعين على الفهم. لأي معيار نُخضعُ هزةً إبادية كهذه؟ وبأي معيار نزن الحِمم الشريرة في كيان «إياغو»؟

في مقالة أُرويل عرضٌ لموقف تولستوي، الذي ظل غريباً وملغزاً حتى اليوم، ومحاولةٌ لتفنيد إنكاره، الذي لا يخلو من كراهية غير مبررة لشكسبير، ورغم أن أُرويل يكتفي في دفاعه عن شكسبير بديمومته التي لا خلاف عليها في آداب العالم، فإنه يعرض لأمرين مهمين، يحسب أن فيهما العلة الكامنة لهذه الكراهية، الأول هو الخلاف الجوهري بين الموقف الديني لتولستوي، والموقف الإنساني لشكسبير، فالأخير بالغ الحماس لتدفق الحياة، بكل ما فيها من تعارض، تولستوي على ضفة أخرى يعظ الناس بالتقشف، وتضييق نطاق الوعي، والتخلي عن الملكية البغيضة، حرصاً على حياة خالية من الألم والأذى.

الأمر الثاني هو أن الشبهَ الغريبَ بين الشيخ تولستوي والملك العجوز لير بالغُ القرابة والدقة.

فتولستوي هو الآخر عانى خيبة أمل، من نفس طبيعة خيبة أمل لير، بعد تخليه عن أملاكه، وعن ألقابه الأرستقراطية، وحتى عن حقوقه ككاتب في التأليف والنشر.

ورغم أن أُرويل ينتصر لعظمة شكسبير، لكن أمراً آخر أجده لا يقل تأثيراً في موقف تولستوي، هو هذا الحنو على مصير الكائن، والحرص على مقاومة الشَّر، وتقليل عبء الألم على الإنسان ما استطاع إلى ذلك، حتى لو كان هذا المسعى على حساب حرية الكائن، وتدفق الحياة التي تحتضنه.

في الكتاب الفلسفي بشأن طبيعة الشَّر في شخصية «إياغو»، يرى المؤلف أن الناس على اتفاق حول هذه الطبيعة الشَّريرة، لكن لا أحد يعرف لماذا يفعل إياغو ما يفعله؟ ما هي دوافعُه؟ ولم يتحمل كل هذه المخاطر من أجل تدمير عطيل؟

المؤلف يقارب بين اسم Iago وبين لفظة Ego «الأنا»، فهو بالغ الغرور فعلاً، ولا يعترف بأي معيار خارج نفسه، ولا يفهم الناس حوله إلا باعتبارهم أدواتٍ، لذا يُطلق على الشخصية لقب «مفهوم إياغو»، لأنه أقرب إلى «المفهوم» منه إلى الكائن البشري، إنه وحش، ينتسب إلى عجائب المخلوقات، ونحن لا نستطيع فهم الوحش بوسائل فهم الإنسان، الولع بالمكيدة عند إياغو قيمة جوهرية في ذاتها، لا مجرد وسيلة لهدف خارجها. إنها تحفز عقله، تختبر ذكاءه، وتستدعي القوة، والعزم، والشجاعة، فهو لم يخدع عطيلا من أجل تحطيمه، بل حطم عطيلا من أجل خداعه، لأن المكيدة هدفٌ لا وسيلة، إنه أشبه بمدمن القمار، الذي لا يعنيه أن يكسب مالاً أو يسبب حزناً للآخر، بقدر استثارته بفاعلية المقامرة ذاتها، ما كان يثير إياغو هو إساءته إلى ثقة الآخرين، الأمر الذي يُشعره بالسلطة عليهم.

هذا الاستنتاج يُعيدني إلى مقالة أُرويل السابقة، ففيها يستنتج هو الآخر أن الأكثر أهمية من التمييز بين العنف واللاعنف لدى الفرد هو التمييز بين شهية السلطة لديه من عدمها. 

back to top