تُعتبر الصدامات التي وقعت في السادس والعشرين من مارس بين عناصر من لواء غولاني التابع لقوات الدفاع الإسرائيلية ونشطاء فلسطينيين قرب حدود غزة الأخطر منذ انتهاء عملية "الرصاص المسكوب" في شهر يناير عام 2009. فقد فاقمت هذه الصدامات حالة التوتر، الذي بدأ يتصاعد بسبب ارتفاع عدد الهجمات الصاروخية على جنوب إسرائيل، وكذلك عززت الصدامات المخاوف من أن تكون حرب أخرى على غزة تلوح في الأفق. ليس لدى "حماس" أو إسرائيل أي نية واضحة بتجديد العمليات القتالية الواسعة النطاق، لكن المنحى الذي يتخذه الصراع على الحدود يشير إلى التصعيد. فكلا الطرفين لم يُرد الحرب أيضاً في ديسمبر عام 2008، لكنها اندلعت في مطلق الأحوال.

Ad

 الحادثة

بدأت الاشتباكات كرد روتيني من قبل قوات الدفاع الإسرائيلية على الأنشطة الفلسطينية التي كانت تجري بالقرب من السياج الأمني الحدودي، وراحت عناصر من هذه القوات تراقب ما بدا كعملية زرع مقاتلين من حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية قنابل بالقرب من السياج، والتي تشكّل أيضاً نشاطاً روتينياً، وعندئذ، ردت قوة من الكتيبة الثانية عشرة من لواء غولاني، بعبور السياج والتوغل لمسافة معينة داخل غزة بالقرب من خان يونس للتحقيق في ما يحدث. فتلا هذا الأمر إطلاق نار أسفر عن مقتل جنديين من قوات الدفاع، بمن فيهما مساعد قائد الكتيبة، وجرح جندين إسرائيليين آخرين. بالتزامن أيضاً، قُتل ناشطان فلسطينيان. وقد توالت أحداث أخرى مماثلة على ما يُفترض، في كل مرة كان يحاول فيها ناشطون فلسطينيون آخرون زرع عبوات ناسفة على طول السياج.  

   تصاعد التوتر

وقعت الاشتباكات على خلفية تصاعد التوتر بسبب التظاهرات الفلسطينية في القدس، التحريض من قبل حركة "حماس"، الهجمات بالصواريخ من منظمات أخرى على جنوب إسرائيل والضربات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف في غزة، مصحوبة ببيانات تحذير رسمية. فمن 17 حتى 24 مارس، أطلق الناشطون الفلسطينيون في غزة أحد عشر صاروخاً على جنوب إسرائيل. لم تُعز مسؤولية أي منها إلى "حماس"، لكن الهدوء كان قد خيّم في الأسابيع السابقة لأنه لم ترد تقارير عن أي هجمات بالصواريخ في ظل مساعي "حماس" لمنع إطلاقها، لكن تصاعد عمليات إطلاق الصورايخ حملت البعض إلى التساؤل عما إذا كانت "حماس" قد غيّرت سياستها وأنها باتت تسمح بمثل هذه الهجمات، أو على الأقل لا تحاول منعه. أثار وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك علناً هذا الاحتمال في 27 مارس، في أعقاب الضربات الجوية الانتقامية في 19، 20، 23، و24 مارس.

ما يفاقم التوتر أيضاً استمرار الصدامات على طول الحدود أو بالقرب منها، فتشكّل هذه الصدامات جزءاً من سباق بين الفصائل الفلسطينية وقوات الدفاع الإسرائيلية للسيطرة على السياج والمنطقة العازلة الموازية له. تسعى القوات الفلسطينية إلى بسط سيطرتها لغاية السياج بحد ذاته، على الأرجح كخطوة تمهيدية لشن هجمات إرهابية على إسرائيل، بينما تحاول قوات الدفاع الإسرائيلية السيطرة على المنطقة العازلة في غزة لإحباط هذه النوايا. وهكذا أدى هذا النزاع إلى حصيلة ثابتة من الضحايا، عموماً على الجانب الفلسطيني.

تتصف التعليمات الإسرائيلية بالرد على مثل هذه الحوادث بالعدائية. يُتوقع من القادة أن يردوا بقوة، عبر الاحتكاك مباشرةً مع الناشطين الفلسطينيين داخل المنطقة العازلة حتى لو تطلب منهم الأمر المخاطرة بحياتهم. مباشرةً قبل يومين من الاشتباكات التي اندلعت في 26 مارس، قُتل أحد الجنود التابعين لقوات الدفاع الإسرائيلية بـ"نيران صديقة" خلال رد عنيف من قبل لواء غولاني ضد ناشط فلسطيني. وعلى نحو مماثل، أُعطيت كتائب القسائم التابعة لـ"حماس" التعليمات بالرد بعنف على التوغلات الإسرائيلية في المنطقة العازلة. فأنشأت هذه الكتائب شبكة مراقبة تنبّه قادتها لمثل هذه التوغلات ما يسمح لهؤلاء بالرد سريعاً. بحسب ما أفادت كتائب القسام، أدت هذه الشبكة دوراً في اشتباكات 26 مارس، منبّهة قوات القسام القتالية التي أطلقت النار على أحد عناصر لواء غولاني داخل غزة.  يبدو أن النزاعات السياسية الفلسطينية تصعد التوتر هي الأخرى، إذ تجلت على جبهات عدة: الجدال الداخلي في حركة "حماس" بين المتشددين والبراغماتيين حول دور التحركات العنيفة ضد إسرائيل في المناخ الحالي؛ ومساعي "حماس" لاحتواء عناصر جهادية في غزة؛ وخلاف "حماس" مع السلطة الفلسطينية بشأن من يقود حركة "المقاومة" ضد إسرائيل. لذلك يواجه قادة "حماس" صعوبةً في تصوير الحركة على أنها من تقود المقاومة وفي الوقت عينه قمع الهجمات على إسرائيل خوفاً من وقوع اجتياح آخر. من جهتهم، غلب معارضو "حماس" في الداخل هذه الأخيرة عبر تسليط الضوء على هذا التناقض، الذي يساعد على تفسير سبب بذل الحركة جهوداً كثيرة للترويج لـ"انتصارها" في 26 مارس. كذلك أدى استمرار تقدم مصر في بناء الجدار على طول الحدود مع غزة لمنع عمليات التهريب إلى زيادة الضغوط على "حماس". يهدد هذا الجدار نظام الأنفاق الذي أنشأته الحركة، والتي لا تستورد عبره الأسلحة فحسب، إنما أيضاً السلع الاستهلاكية الضرورية للحفاظ على الدعم السياسي.

تحدث هذه التطورات كافة في سياق استمرار التحضيرات العسكرية من كلا الجانبين لما يعتقد كثيرون أنها حرب جوهرية أخرى، وعلى الرغم من أن قوات الدفاع الإسرائيلية لا تسعى إلى مثل هذه الحرب، فإنها تستعد بفعالية للجولة التالية منذ نهاية عملية "الرصاص المسكوب". وفي وقت سابق من هذا الشهر، استكملت القيادة الجنوبية لقوات الدفاع الإسرائيلية تدريبات أساسية في مقارها تركز على احتمال اندلاع أي حرب متجددة في غزة. وبعد صدامات 26 مارس، نشرت إسرائيل بطاريات صواريخ إضافية بالقرب من الحدود، ومن جهتها، واصلت "حماس" تعزيز قوّتها منذ تلك العملية، عبر استيراد الأسلحة (بما فيها صواريخ جديدة بعيدة المدى)، تحصين مواقعها، وتوسيع شبكة أنفاقها العسكرية تحت غزة. وهكذا يتأهّب كلا الجانبين ضد نشاطات الآخر ويراقبها عن كثب.

محرّكات الصراع في غزة

الوضع الراهن معقد ومتقلب؛ فقد أدى التوتر المتزايد بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية إلى زيادة عمليات إطلاق الصواريخ من غزة مع إظهار الفصائل الفلسطينية هناك دعمها لتلك التي في الضفة الغربية. قد يدفع التزاحم السياسي الفلسطيني داخل غزة وخارجها بـ"حماس"، ولو على مضض، إلى اعتماد سياسة أكثر تهوراً في ما يخص الهجمات على إسرائيل، إن لم يكن مباشرةً بواسطة هجمات تشنّها "حماس"، إذن عبر إتاحة مجال أكبر للتصرف للمنظمات الأخرى. قد تكون "حماس" أرخت قبضتها على مثل هذه المجموعات بسبب ضغوط مختلفة أو لم ترخها. على أي حال، حين تُطلق الصواريخ على إسرائيل، غالباً ما تضرب قوات الدفاع الإسرائيلية أهدافاً تابعة لـ"حماس"، وحين يقترب ناشطون فلسطينيون من السياج الحدودي، ترد هذه القوات بعنف.

تحاول إسرائيل تعزيز مستوى الردع الذي أنشأته مع عملية "الرصاص المسكوب" بواسطة الضربات الجوية والتحذيرات، لكن ثمة انطباع بأن ذلك غير كاف، أي أن قوة الردع تتآكل في ظل الظروف الحالية. يزداد شعور المدنيين الإسرائيليين في جنوب إسرائيل بالقلق أيضاً بشأن تزايد الهجمات الصاروخية والحوادث على الحدود، ما يزيد الضغط على الحكومة والجيش للرد بقوة. تعامل مسؤولون إسرائيليون رفيعو المستوى بحذر عموماً مع الوضع، بالرغم من أن الوزير من حزب الليكود، يوفال شتاينيتس، أعلن في 28 مارس أن إسرائيل قد تضطر إلى إعادة احتلال غزة للقضاء على نظام "حماس". فضلاً عن ذلك، اعتمد بعض الضباط في القيادة الجنوبية مساراً علنياً أكثر صرامةً من ذلك الذي انتهجه رئيس هيئة الأركان في قوات الدفاع الإسرائيلية، غابي أشكينازي، الذي أبدى حذراً شديداً.

 ما الخطوة التالية؟

نعمت إسرائيل بالهدوء النسبي في الجنوب منذ عملية الرصاص المكسوب وهي لا تملك مبرراً كافياً لشن عملية واسعة النطاق في غزة، فضلاً عن أنها في خضم مشاحنة سياسية عسيرة مع واشنطن، قد تفاقمها أي حرب أخرى، ويبدو أن "حماس" اتّعظت من التصعيد الجامح الذي حرضت عليه قبل عملية الرصاص المسكوب وتحتاج هي أيضاً إلى ذرائعها الخاصة. لذلك، أنفقت جزءاً كبيراً من رصيدها السياسي لمنع الهجمات على إسرائيل. في هذا الإطار، أدان أحد المسؤولين البارزين في "حماس" في غزّة، محمود الزهار، في 20 مارس في بيان علني إطلاق الصواريخ على إسرائيل بشكل أساسي لكونه يخدم العدو، وعلى الرغم من تفاخرها باشتباكات 26 مارس، حرصت الحركة على الإشارة إلى أنها تتصرف بشكل دفاعي ولم تغير قواعد اللعبة، كذلك انعكست هواجس الحركة في تقارير تفيد بأن قيادييها في غزة اختبؤوا في ملاجئ تحت الأرض خلال تلك الحادثة.       

بالرغم من هذه التحفظات من كلا الجانبين، يتّجه الوضع في غزة نحو المزيد من أعمال العنف وعمليات عسكرية أكثر اتّساعاً، لكن إدارة هذا الوضع ومنع حرب واسعة النطاق سيشكّلان تحدياً لكل من إسرائيل و"حماس".

* جيفري وايت | Jeffrey White ، أستاذ شؤون الدفاع في "معهد واشنطن"، ومتخصص في الشؤون الأمنية والعسكرية في بلاد الشام، العراق وإيران.