نظرت من نافذتي في الطابق الثالث، كان الشارع ساكنا، وبدت المخازن على جهته المقابلة متراصفة مع سكونه مثل التوابيت، وكان المارة القليلون يتحركون على الرصيف ببطء وضجر، مثلما تتحرك موجات النهر المتكاسلة أمام هبة ريح خفيفة، رفعت بصري إلى السماء، فبدت لي مكتظة بالغيوم الداكنة الكئيبة.

Ad

خطرت في ذهني المترع بكآبة لا حدّ لها، صورة حجر مقذوف كالطلقة، يكشط، في تسارعه، وجه المساء الساكن، ويستثير الضجة من حوله، ثم لا يلبث أن يخلف من بعده دوائر تترادف وتتسع إلى ما لا نهاية.

وفكرت في أن تلك الغيوم إذا ما بصقت حمولتها على وجه الشارع فلن تبعث فيه الحياة المرجوة، سيسطع البرق للحظة، ربما، وسيزأر الرعد لثوان، ربما، لكن هذا هو كل شيء. وفي المقابل فإن خرير المطر الموحش سيكتسح أمامه حتى موجات العابرين المتكاسلة، وسيجبر حتى الأبواب القليلة المفتوحة على الكف عن تثاؤبها.

***

(كرااااش)!

ركزت جوارحي كلها في نظرة عاجلة إلى واجهة دكان الخباز. ها هو ذا حجر قد اندفع بعنفوان ليفتتح سيمفونية الحياة.

بلمح البصر خرج الخباز حانقا، وفي يده لوح الأرغفة الخشبي، وجرى من ورائه جميع عمال المخبز.

داست الأرجل شظايا الزجاج التي ملأت الرصيف. صرخ واحد من العمال الحفاة، وراح يتقافز على رجل واحدة، حاملا بيديه رجله الأخرى وهي تقطر بالدم.

صاح الخبّاز وهو يرى الواجهة مهشمة تماما:

- أولاد الكلب.

كان أمام الدكان صبي مطأطئ نحو الأرض يبحث عن شيء سقط منه. تلّه الخباز من ياقته، وألهب وجهه بصفعة رنانة، أردفها بالصراخ:

- ابن الكلب.. ماذا تريد أن تكسر أيضا؟!

ارتعش الصبي بين يدي الخباز، وبعد هنيهة من صمته المطبق نتيجة خضة المفاجأة، أطلق عقيرته بصراخ يمزق الآذان.

تفتحت النوافذ على جانبي الشارع، وترددت الهمهمات والصيحات متسائلة، ثم تتابع هطول الناس من أبواب المباني.

أقبلت امرأة مذعورة، واخترقت الزحام، وحين رأت الصبي غارقا في دموعه وهو مشنوق من ياقته بيد الخباز، لطمت خديها وصدرها، وأطلقت صيحة فزع عالية:

- ابني!

جذبت الصبي بعنف، وانتشلت اللوح بسرعة من يد الخباز، ثم راحت تجلده به بضربات متلاحقة، وهي تصرخ بلا انقطاع:

- جبان. جبان.

حاول أحد العمال استخلاص اللوح من يدها، فسقطت على الأرض، واندلع غضبها، حينئذ، أعنف مما كان.

اندفع رجل من وسط الزحام، وتوجه كالعاصفة نحو ذلك العامل الذي أسقط المرأة.

كان الرجل، في عجلته للنزول، لا يرتدي غير سروال بيجامته، وكان وجهه لايزال مغطى بصابون الحلاقة.

صاح الناس برعب:

- العن الشيطان يا رجل!

تراجع العامل فزعا، وامتدت الأذرع للإمساك بالرجل الغاضب الذي كان يصرخ، وفي يده تلتمع شفرة الحلاقة:

- يا خسيس... تضع حيلك في امرأة؟!

أفلح البعض في جذب الرجل الشهم وتثبيته في مكانه، لكن موجة الزحام الطاغية دفعت بالعامل نحوه بقوة.

تدفق الدم كالنافورة، واصفرّ وجه الشهم الذي مازالت يده قابضة على الشفرة المغروزة في بطن الخسيس.

صرخ العامل المطعون قبل أن يهوي على الرصيف:

- قتلني!

أقبل من آخر الناصية شرطي يركض. وقف بين الجموع حائرا، كان الجميع يشدونه من كل جانب، وكانوا جميعا يزعقون في وقت واحد، مشيرين إلى كل الاتجاهات: إلى الخبّاز وعماله، إلى الأم وولدها، إلى صاحب الشفرة، إلى جثة العامل النازفة فوق الرصيف.

توقفت السيارات في الشارع، وراحت تنفخ أبواقها دون جدوى، حيث لم يكن هناك سبيل إلى تفريق الناس.

وبين الفينة والأخرى، كانت صفارات شرطة المرور تزغرد آمرة بالتحرك، لكن لم يكن في وسع السائقين إلا مواساتها بنفخ الأبواق وضخ البنزين ودوس الكوابح. بسطت ذراعيّ على طوار النافذة، مصيخا إلى ضجة الحياة التي بعثها ذلك الحجر الساحر في سكون نهر الشارع، ورحت أرقب بشغف، تلك الدوائر التي خلّفها وهي تترادف وتتسع.

قلت وأنا أسمع صفارات الشرطة.

- تلك هي دائرة المرور.

ولم يلبث صوت سيارة الإسعاف أن أتى يتأوّد من بعيد، وارتفع بالتدريج كصرخة المفجوع.

- ها هي ذي دائرة الصحة.

ثم ضحكت حتى دمعت عيناي، حين امتلأ الشارع بعويل متصل مصحوب برنين الأجراس.

قلت وأنا أغمض عيني منتشيا:

-.. وهذه دائرة الإطفاء.

فتحت عينيّ لأرى المارة يتراجعون صائحين، أمام لهب النار، ورجال الإطفاء يقتحمون بخراطيمهم دكّان الخباز الذي اندلع فيه الحريق.

كانت النار تشب وتخبو مكفنة بالدخان ورائحة الاحتراق، وكان الزحام يشتد، وكانت الضجة ترتفع وترتفع.

سمعت قرعا على بابي.

تركت النافذة، وفتحت الباب، رأيت أمامي شرطيا عابسا، وإلى جانبه رجل غاضب، ووراءهما حشد من الناس.

قال الرجل الغاضب وهو يشير إليّ:

- هذا يا سيدي... نعم هو نفسه... لقد رأيته بعينيّ هاتين، من نافذتي على الجانب الآخر، وهو يقذف الحجر نحو واجهة المخبز.

قلتُ في سري، وأنا أهبط من على الدرج أمام الشرطي والجماهير:

- ها نحن قد وصلنا، الآن، إلى دائرة القضاء!

ورحت أتخيّل ميلاد دوائر أخرى وأخرى، فأنا أعلم علم اليقين أن الدوائر التي يصنعها ارتطام الحجر بالماء الساكن ستظل تترادف وتتسع بلا نهاية.

قلت لنفسي، وأنا أصعد إلى سيارة الشرطة: لا يهم... لقد بعثنا الحياة في الشارع!

* شاعر عراقي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء