مرت على العالم ذكرى انقضاء مئتي سنة على ولادة العالم البيولوجي البريطاني شارلز دارون، ومئة وخمسين سنة على صدور كتابه المثير «أصل الأنواع»، ومن المصادفات غير السعيدة أن فكرة «التطور»، وهي فكرة مهمة للغاية ومحورية في حركة الحضارات والمجتمعات الإنسانية وتقدمها، قد ارتبطت ارتباطاً عضوياً في أذهان الكثيرين، من العرب خاصة، بالنظرية الداروينية البيولوجية في التطور، وهي الشائع عنها اعتقادها «إن الإنسان أصله قرد!»، وللأمانة فذلك ما لم يقله شارلز داروين صاحب «أصل الأنواع»، وإن كان قد قال إن الإنسان والشمبانزي يربطهما أصل واحد تطورا منه، وإن ثمة «حلقة مفقودة» لم يكتشفها العلم سبقت ظهور الإنسان في هيئة كائن أكثر بدائية، وقد تفسر، تحديداً، نشأته. وهو قول إذا أخذناه بحرفيته لا يمكن قبوله دينياً، وإن كان بعض «الدينيين» قد حاولوا إعطاءه معنى إيمانياً، كبعض المذاهب المسيحية، لكن ذلك كله لا يمكن الدفاع عنه من وجهة نظر دينية، كما لا يمكن الهروب من تأثير الانطباع الشائع عن الداروينية ومما نسب إليها، في الاعتقادات العامة، بأن «الإنسـان أصله قرد!».

Ad

قرد؟ أجللكم الله! كيف يتقبل الإنسان هذا الأصل «غير الشريف» ويتطور به؟ وهو المنافي ليس لرد الفعل الإنساني العفوي فحسب، إنما للاعتقادات الدينية الراسخة، مهما حاول الموفقون والمفسرون الإيحاء بالعكس.

غير أن التداعي الخطر والمدمر لهذا هو القفز إلى الاستنتاج الخاطئ والمهلك القائل: «إذن، فالتطور كله حرام ومرفوض، وفي أحسن الأحوال غير مقبول!».

هذا للأسف الشديد ما تبلور في عقلنا العربي الإسلامي الجمعي فخسرنا التطور الحقيقي، باسم محاربة الداروينية.

وقصدنا من هذه المقالة «فك الارتباط»، بل «فك الاشتباك» بين الداروينية البيولوجية ومفهوم التطور الذي نحتاجه وتحتاجه مجتمعاتنا، خاصةً في هذه المرحلة، أشد الاحتياج!

إن الداروينية، بمفهومها البيولوجي، قد تنتشر فترة وتنحسر أخرى، كما نشهد في المجتمعات والأوساط الغربية، طبقاً للمناخ الفكري، علمياً كان أو دينياً، الذي يسود هناك في مرحلة من المراحل. وبين وقت وآخر تظهر اكتشافات علمية موغلة في القدم بعضها يؤيد النظرية وبعضها ينقضها.

ولكن مفهوم «التطور»– بالمعاني التي سنوضحها– هو ما نحتاج إليه كعرب ومسلمين، خاصة في هذه المرحلة، إن كنا سنلحق بما فاتتنا من قفزات تقدمية حققتها الإنسانية في الشرق وفي الغرب.

لو تأمل متأمل في تاريخ الأديان السماوية لأدرك أنها «تتطور»، وإلا فما مغزى الرسالات الإلهية واحدة بعد الأخرى، وكل واحدة تكمل السابقة، أو تضيف ما ينقصها، كما نرى من «تطور» الدين في عهد نوح إلى الموسوية، إلى المسيحية، إلى الحنيفية التي انتشرت في جزيرة العرب قبل الإسلام. «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا» (سورة البقرة 135)، «ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً» (سورة النحل 123).

ثم جاءت الرسالة الإسلامية الخاتمة جامعةً بين عقيدة وشريعة وأخلاق، وهكذا فالإسلام حصيلة «تطور» في سير الرسالات السماوية... ولا يعقل أن نرفض التطور باسمه! ومن ناحية أخرى فقد ظهرت في الغرب دراسات رصينة موثقة بشأن «التطور الروحي» للبشرية، وهي مسألة ينبغي أن نتوقف عندها.

أما «التطور» في النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية، فتحصيل حاصل، ويلم به كل دارس للتاريخ أو علم الاجتماع أو كل صاحب «ثقافة عامة» أو ممارس لشؤون الحياة العملية. ومن يتوهم أنه «ثابت» في مكانه لا يتزحزح عنه، فإنه في واقع الأمر يتقهقر إلى الوراء، لسبب بسيط وهو أن العالم يتحرك سريعاً ويتقدم إلى الأمام ومن «يجمد»، فإن العالم يتجاوزه إلى غير رجعة، حتى لو انطوى نظامه السياسي على ميزات جيدة في بداياته.

هكذا حدث للنظامين الدستوريين شبه الديمقراطيين في مصر والعراق، وقبلهما سقط النظام الملكي الفرنسي والنظام القيصري الروسي، لإخفاقهما في الإصلاح بالدرجة اللازمة.

على صعيد آخر نشرت مجلة «العربي» الكويتية في عدد أخير من أعدادها (نوفمبر 2009) مقالاً مفيداً لعالم الإنثروبولوجيا المصري العربي الكبير د. أحمد أبوزيد بعنوان «الداروينية والتنمية التطورية» استعرض فيه العديد من الحقائق العلمية والفكرية عن الداروينية، في مفهومها البيولوجي ثم عن التطور في مفهومه الحضاري ومما خلص إليه، استناداً إلى مصادر علمية حديثة: أن الجنس البشري على أبواب مرحلة تطورية أو على الأصح طفرة تطورية جديدة سوف تتحقق خلال السنوات الخمسين القادمة، نتيجة عوامل كثيرة، ليس أقلها شأناً إمكان القضاء على كثير من الأمراض... وإن الاكتشافات الحديثة في هذا المضمار تبشر بحدوث قفزة بالنسبة للأجيال التالية، وإن كان هناك دائماً خطورة أن يؤدي ذلك إلى انكماش التنوع البشري الذي عرفته الإنسانية خلال تاريخها الطويل فتتلاشى الاختلافات والتباينات بين السلالات والأعراق والشعوب والثقافات.

ويضيف الدكتور أبوزيد في مقالته الغنية هذه: «وقد ظهرت اتجاهات جديدة تنظر إلى الداروينية من زوايا مختلفة دون أن تتنكر لمفهوم التطور ذاته، وتذهب على سبيل المثال إلى أن التطور يتم عن طريق التعاون أو العون المشترك أكثر مما يتم من خلال الصراع الذي يحتل مكاناً بارزاً في فكر داروين».

وهذا الاقتباس لا يغني عن قراءة تلك المقالة العلمية الثمينة التي لابد أن نشكر كاتبها، ومجلة «العربي» التي أرادتها الكويت مناراً للثقافة العربية التنويرية الرصينة منذ أكثر من خمسين سنة.

وأخيراً، فعلينا– كعرب– أن نحسم أمرنا، وألا ننشغل بجدل بيزنطي بشأن الداروينية البيولوجية، فهي لم تثبت علمياً.

لكن «التطور» بمفهومه الاجتماعي والحضاري من حقائق الدين والحياة والحضارة هو ما تحتاج أنظمتنا السياسية إليه بشدة... وعلينا أن نعض عليه بالنواجذ، لئلا نخسـر سباق الوجود!

* مفكر من البحرين