في عام 1995، تم اختيار الليبيري جورج ويا كأفضل لاعب كرة قدم في إفريقيا وأوروبا والعالم، لكنه بعد هذا التاريخ بعشر سنوات سعى إلى خوض غمار منافسة من نوع آخر... لقد سعى إلى الحصول على منصب الرئاسة في بلاده، حيث كانت حظوظه آنذاك معتبرة وشعبيته ملحوظة، رغم أنها لم تمكنه من الفوز بهذا المنصب المهم لاحقاً.

Ad

ولأن ارتداء القمصان يعد من مظاهر الثراء في هذا البلد الإفريقي الفقير؛ فقد رسم أنصار ويا في حملته الانتخابية الرئاسية صوره على ظهورهم العارية، وكتبوا تحتها "خيار الشعب". أما ويا فقد ظل يخطب في مؤيديه قائلاً: "كنت أرتدي القميص رقم 14 مع المنتخب، والقميص رقم 9 مع ميلان؛ فإذا جمعنا الرقمين لحصلنا على الرقم 23، وها أنتم تقتربون من انتخاب الرئيس الـ23 لبلادنا... 23 هو رقم حظي". إنه فعلاً خطاب يليق بمرشح رئاسي قادم من ملاعب الكرة، وبأنصار يعتبرون أن القدرة على إحراز الأهداف ومراوغة المنافسين تمكن صاحبها من قيادة الأمم.

ليست هذه حكاية بعيدة تختلط فيها الطرافة بالدهشة والاستنكار إذا رويت في واقعنا العربي؛ بل هي واقع قريب جداً مما نحن عليه، وربما يتحقق لدينا في يوم ليس بعيد.

في نهاية شهر يناير الماضي، فاز المنتخب الكروي المصري ببطولة كأس الأمم الإفريقية للمرة الثالثة على التوالي، في أعقاب إخفاق مؤلم في الحصول على بطاقة التأهل لنهائيات كأس العالم 2010، لكن الاحتفالات لم تهدأ لحظة حتى يومنا هذا بذلك "الفتح العظيم".

أكثر ما يشغل المصريين الآن هو "أزمة البوتغاز"، حيث تعجز نحو 13 مليون أسرة مصرية عن تدبير أنبوبة بوتغاز بالسعر المدعم، لإشعال مواقدها، في ظل شح الأنابيب في الأسواق، وغرق آلية التوزيع في الفساد وتردي الكفاءة. لذلك فعدد كبير من المصريين، رجالاً ونساءً، يتقاتلون أمام مستودعات التوزيع يومياً، ويسقط منهم قتلى وجرحى، فيما تؤكد الحكومة أنها تقوم بواجبها على أكمل وجه، وأن "المعروض من البوتغاز أكثر من الطلب".

ثمة إشكال آخر يتعلق بتفاقم عجز الموازنة، ولجوء وزارة المالية إلى فرض ضريبة جديدة على العقارات في مواجهة معارضة شعبية كبيرة، فضلاً عن تصاعد الدين العام ليبلغ تسعة آلاف جنيه (الدولار الأميركي 5.47 جنيه) على كل رأس في البلاد، ورغبة الحكومة في تقليص مخصصات العلاج على نفقة الدولة لأنها "تشكل أعباء ضخمة على الميزانية المرهقة".

لكن هذه الضغوط والمشكلات المتفاقمة لم تمنع الدولة من صرف مكافآت ضخمة للاعبي المنتخب وجهازهم الفني والإداري، إضافة إلى الملايين التي حصل عليها هؤلاء من خلال عقودهم أو مكافآتهم الأساسية أو الحملات الإعلانية التي يشاركون فيها والتبرعات السخية لرجال الأعمال وبعض الجهات في الخارج والداخل.

وعلى مدى الأسبوع الفائت، حرص كل محافظ من محافظي الأقاليم المصرية على دعوة اللاعبين الذين ينتمون إلى إقليمه على حفلات تكريم شعبية ورسمية، وإعطائهم مكافآت مالية من موازنة الإقليم، بل إطلاق أسماء بعضهم على شوارع وميادين، إلى درجة أن بعض المحافظين الذين تقاعسوا عن انتهاج تلك السياسة تعرضوا لتوبيخ وانتقاد شديد على المستويين الشعبي والإعلامي.

يمكننا أن نتقبل جميع الانفلاتات السابقة، كما يمكن أن نتفهم دوماً كيف تؤثر الكرة في المزاج العام وتخلب الألباب؛ إذ يحدث هذا في بعض الدول الأكثر تقدماً سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفي أكثر من عصر وسياق؛ لكن ما يصعب تقبله حقيقة هو ظهور دعوات من فعاليات اجتماعية وإعلامية وبعض الناشطين على وسائل "الإعلام الجديد" بـ"ترشيح بعض النجوم لرئاسة البلاد، أو تعيين المدير الفني للمنتخب رئيساً للوزراء".

منذ أن نشأت الدولة الوطنية العربية، ومنذ أن انخرط العرب في منافسات الكرة وتعلقوا بها، يحرص عدد من النافذين سياسياً واجتماعياً على رئاسة اتحادات كرة القدم في بلادهم أو قيادة النوادي الشعبية. ولذلك، فلم يكن مستغرباً أن يتوالى على تلك المناصب بعض كبار القادة العسكريين في الدول ذات نظم الحكم الجمهوري، وبعض أبناء الأسر الحاكمة في الدول ذات النظم الوراثية في حكمها أو الدول الجمهورية التي اعتمدت نهجاً توريثياً في انتقال الحكم؛ إذ يسعى هؤلاء إما إلى تطوير قدراتهم القيادية في مجال منخفض المخاطر، وإما استثمار تعلق المواطنين بالكرة في بناء شعبيتهم ونجوميتهم السياسية، وإما إلى إرضاء نوازعهم المباشرة في الانتماء والتعلق الكروي والاقتراب بشدة من نجوم المجال الذي يتعلقون به.

وفي غضون ذلك نشأت آلية يمكن تسميتها "التسويق السياسي لكرة القدم"، حيث تمت الاستفادة من شعبية الكرة وتعلق الجماهير الآسر بها في الترويج لقيادات مقترحة من المجالين السياسي أو القبلي، أو التغطية على فشل الحكومات وعجزها عن الوفاء بأعباء الحكم وغرقها في الفساد وتدني الكفاءة، أو بناء صورة الحاكم باعتباره "راعياً للانتصارات والأمجاد الوطنية".

وفيما تعمل آلية "التسويق السياسي للكرة" باطراد وكفاءة منقطعة النظير، بحيث كرست الانتماء اللحظي الشكلاني، وصنعت نجوماً من أبناء الأسر والسياسيين والعسكر، وغطت على كوارث الحكومات، وغيَّبت الوعي الجمعي في مفاصل حرجة، كانت الكرة نفسها تعمل في الاتجاه المعاكس أيضاً؛ فتفتئت على السياسة والاقتصاد، وتحتل المساحة الأكبر في المجال العام، وتصدر نجومها في الاتجاه المعاكس، ليحتلوا مواقع مؤثرة تتضخم باطراد في منابر الإعلام وأنشطة الأعمال والتجارة ومناصب السياسة وفعاليات الشؤون العامة.

وكما لهونا بالكرة واستخدمناها واستمتعنا بها، فإنها أيضاً بدأت تلهو بنا وتستخدمنا، وهو خطب لو تعلمون جلل.

* كاتب مصري