الزمن في الرواية
يصرح الروائي الحائز جائزة نوبل، غابرييل غارسيا ماركيز، في أكثر من مقال، بأن أكثر ما يرهقه ويخيفه في الكتابة القصصية والروائية، هو عنصر الزمن، ولقد توقفت كثيرا عند هذا الرأي، فهو يصدر عن كاتب عالمي موهوب ومتمكن، أديب أجاد كتابة القصة القصيرة والرواية، ووصل إلى القارئ في كل مكان بالعالم، عبر ترجمات حملت أعماله إلى زوايا الدنيا، فما الذي يخيف ماركيز من لعبة وحضور الزمن في العمل الأدبي؟
إن سريان ماء نهر الزمن المنتظم والرتيب، فوق جادة أعمارنا، إنما ينحت بتصميم ثابت صخرة هذه الأعمار مشكّلاً ملامحها، وإنه بانتقالاته وانعطافاته وحالاته المتحولة، يترك علاماته القاسية على أرواحنا ومشاعرنا وجلودنا، لذا ولكون الأدب حياة مجاورة للواقع وانعكاسا فنيا له، فإنه يعتمد بشكل كبير على سريان ماء الزمن بين جنباته، فالزمن في أي عمل أدبي، قصة قصيرة أو رواية، هو عنصر مهم ودال وفاضح، على تمكن المؤلف من عمله، وعلى درجة نجاح وسوية العمل فنياً.علاقة وطيدة تربط بين زمن القص وزمن الحدث اللحظي من جهة، وبين زمن القص وأزمان التذكر من جهة ثانية، مثلما هناك علاقة وطيدة أخرى تربط زمن القص بالمكان، فأي حدث واقعي أو فني، يستحيل حدوثه من دون مكان وزمن، فحتى الأحلام تحتاج وقتاً ومكاناً لكي تنعقد، وبالتالي فليس بالإمكان وجود حدث، سواء كان واقعياً أو روائياً، خارج حدود زمن معين، ومكان محدد، أياً كان شكل هذا الزمن، وأياً كان ملمح هذا المكان. إن الكتابة الروائية التي تأتي غالباً على لسان الراوي العليم، أو بصيغة ضمير المتكلم، من دون تحديد زمان وتخصيص مكان للقص، إنما تقدم مادة روائية عالقة في الهواء، قد تكون مسلية، وقد تكون مؤثرة، وقد تكون مضفورة بفنية عالية، لكنها بالتأكيد ناقصة، في ارتكازها وعلاقتها بزمن محدد بعينه، وكثيراً ما توقفتُ سائلاً نفسي، وأنا أقرأ عملاً روائياً: في أي زمن يحكي الراوي ما يقوله، مقارنة بزمن حكاية الرواية؟ وأين تراه يقبع وهو ينقل إلى القارئ كل ما يعرف؟إن رواج جنس الرواية، أغرى بها الكثيرين، فاختلط الحابل بالنابل، وصارت دور النشر تقذف يومياً روايات جديدة، ومن خلال مطالعاتي الروائية اليومية، فإن فنية الزمن مختلة، ولا أريد أن أقول غائبة عن معظم هذه الأعمال، وربما سبب ذلك يعود إلى صعوبة التحكم بأزمان الرواية من جهة، وانفتاح شهية الحكي لدى المؤلف من جهة أخرى، مما يجعل الكتابة تأتي على أدق التفاصيل، إلا انتباهها إلى الزمن.إن ضرورة التحكم بزمن الرواية، يجعل الروائي يقف أولاً عند زمن الحدث اللحظي في الرواية، وثانياً عند أزمان التذكر، ومن ثم محاولة ربط الزمنين من خلال انسياب الحدث الروائي، وبالتالي تماسك حبكة الرواية فنياً، من دون أن يعوق ذلك الشكل الروائي الذي يكتب في المؤلف.إن عملاً روائياً إبداعياً ناجحاً، مثلما يتطلب حدثاً وشخوصاً ومكاناً، فإنه بالضرورة يحتاج إلى زمن يحتويه، ويكوّن نقطة ارتكازه الأساسية في ارتباطه بالحاضر، وعلاقته بالماضي، وتطلعه إلى المستقبل، وأظن أن الأعمال الروائية المضفورة بالزمن هي أعمال قليلة، لكنها أعمال تحمل في طياتها سحراً فنياً آسراً.