لحظات الغرق الثقيلة... وموج الأفكار الذي أغرقني حينها، صارا هاجسي وغذاء عقلي يوميا، فقد غدوت مأسورا طوال الوقت في التفكير في لزوم أن أترك خلفي رصيدا حقيقيا، من العمل والعطاء، يؤهلني لأن يذكرني الناس بخير من بعد رحيلي.

Ad

كان موضوع هذه المقالة حبيسا في داخل نفسي منذ مدة ليست بالقصيرة، فقصتها التي لا يعرفها إلا المقربون مني، تعود إلى بضعة شهور مضت، ولكنني في كل مرة كنت أنوي الكتابة عنها أجدني وقد ترددت وتخاذلت، ربما لمهابتها أو لغرابتها، أو ربما لعجزي عن الإمساك بالخيط الوثيق الذي يمكن لي أن أنفذ إليها منه!

في الصيف الماضي، وأثناء إحدى النزهات العائلية على البحر، وبينما كنت أقود دراجة مائية أو ما يسمونه بالجت سكي، انقلبت بي بعدما اصطدمت بها موجة مباغتة وأطاحتني من فوق ظهرها، بالرغم من أني لم أكن مسرعا، بل لعلي كنت أقرب إلى الوقوف مني إلى الحركة.

كان الحدث مفاجئا جدا، وسريعا، ففي لحظة وجدتني وبلمح البصر تحت الدراجة التي صدمتني حافتها أثناء السقوط، وإذا بي أندفع إلى العمق محاطا بالظلام الذي تغشى بصري، ومأخوذا بصوت قرقرة الماء المكتومة التي ما كنت أسمع شيئا غيرها من حولي، وذلك التيار الضاغط الذي كان يسحبني نحو الأسفل!

وبالرغم من أني قرأت الكثير عن أناس عاشوا لحظات كهذه، واجهوا فيها لحظة الموت، فإني لم أجد ما كانوا يشبِّهونه دائما بمرور شريط سينمائي لكل لحظات حياتهم، ولعبور صور الأشخاص الذين أحبوهم وعرفوهم وتلك الأحداث المفصلية التي عاشوها من أمام أعينهم، فما شهدته وعشته كان بعيدا كل البعد عن هذا، بل أعترف أنه لم يمر من أمام عيني شخص أو مشهد محدد، بل كنت أنا ونفسي وأفكاري والموت من حولنا.

كنت لحظتها غارقا في البحر، وفي أعماق تلك الفكرة الكاسحة التي أطبقت على أنفاسي، حيث عشت شعورا طاغيا بسخافة الموقف، وأخذ سؤال حاد يصيح في رأسي: أهكذا يموت الإنسان؟ أهكذا بكل بساطة وبهذا الشكل المفاجئ؟ بلا مقدمات ولا علامات ولا إشارات؟!

لم يستغرق الموقف بأسره إلا ثواني معدودة، فسرعان ما وجدتني أركل الماء من تحتي وأنحرف عن حاجز الدراجة الذي كان فوقي، مندفعا نحو السطح، لأستنشق الهواء بكل ما اتسعت له رئتي، لكن ذلك الموقف الآن يعدل دهرا كاملا في ذاكرتي، وهول تلك اللحظة الممتدة ومهابتها لايزال عالقا في كل تلافيف عقلي، واليوم وحتى الساعة وحين أتذكرها، لايزال لا يطبق علي سوى ذلك الصوت المكتوم وذلك الضغط الخانق، وذلك الشعور الذي لفّ اللحظة بأسرها بتفاهة كل شيء، وكيف أني كنت أقول لنفسي وأردد بلا توقف: وكيف أرحل وأنا لم أنتهِ من هذا ولم أنتهِ من ذاك، ولم أفعل هذا ولم أفعل ذاك، وكيف كنت مأخوذا بمحاسبة نفسي بأني لن أخلف قيمة حقيقية ورائي وأنا راحل الآن!

تلك اللحظات الثقيلة، وموج تلك الأفكار الذي أغرقني حينها، صارت جميعها منذ تلك اللحظة، وبالرغم من أني لم أشارك بها الكثيرين إلاّ الآن، هاجسي وغذاء عقلي يوميا، فقد غدوت مأسورا طوال الوقت في التفكير في لزوم أن أترك خلفي رصيدا حقيقيا، من العمل والعطاء، يؤهلني لأن يذكرني الناس بخير من بعد رحيلي، وأن هذا الشيء هو الذي سيجعلني مستحقا لرحمة الله وعطفه بأني كنت فردا صالحا له قيمة ونفع للناس في هذا العالم.

إن الناس شهود الله في أرضه، وآمل لذلك أن يذكرني الناس بخير من بعد رحيلي، عسى أن يكون ذلك شفيعا لي عند ربي. أسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة